رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ولادة النقود .. طبيعيا وقيصريا

كل شيء يلد في هذه الدنيا:
فالإنسان الأنثى يلد وينتج منه هذه الخليقة بأنواعها وأطيافها المختلفة..
والحيوان الأنثى يلد أو يبيض، فيتكاثر، وينتج منه هذه الحيوانات التي تملأ أرجاء الأرض..
والميكروبات تتوالد، فينتج منها منافع وأضرار لا يعلمها إلا الله تعالى..
والنبات يلد عبر أسلوب اللقاح أو غيره، فيملأ الدنيا خضرة وجمالا..
والسحاب يؤلف الله تعالى بينه، ثم يجعله ركاما، فيلد حبات المطر، وترى الودق يخرج من خلاله..
والأفكار تتلاقح، ثم تلد، وتنتج مزيجا من العلوم والثقافات..
وهكذا.. أشياء كثيرة..
والتدخل في عملية التوالد هذه، وتحديدا في عملية التوالد الطبيعي، كالتدخل في عملية التوالد البشري، أو الحيواني، أو النباتي، له أحكامه الخاصة، بحسب منافعه وأضراره..
فالتدخل في عملية التوالد الإنساني والحيواني عبر الاستنساخ محرم شرعا.. وأما النباتي فبحسب ما ينتج منه من منافع أو مخاطر..
والنقد الذي جعله الله تعالى وسيطا للتبادل، ومقياسا للقيمة، ليس خارج هذه المنظومة، فمنه التوالد الطبيعي، ومنه غير الطبيعي..
وبعملية استقراء سريعة، نجد أن النقد يتوالد عبر أساليب عدة، لا يكاد ينفك عن أحد الأساليب الآتية:
1- توليد ''النقد من لا شيء'' عبر أسلوب التزوير أو التزييف، وهذا التوليد كما أنه ممنوع نظاما، فهو محرم شرعا؛ لما فيه من انتهاك مسلمات شرعية عديدة، ومنها: اقتحام أساليب الغش، والكذب، والإضرار بالمصلحة العامة؛ ولهذا جعل فيه واضع النظام عقوبة تعزيرية، كما في النظام الجزائي المتعلق بتزوير وتقليد النقد السعودي في مادته الثانية.
2- توليد ''النقد مما لدى الدولة من غطاء، أو ناتج محلي'' عبر أسلوب إصدار النقود وطبعها. وهذا التوليد يقوم به البنك المركزي - أي مؤسسة النقد في المملكة - وهو الأسلوب النظامي الوحيد في إصدار النقد، وكما أن هذا الإصدار لا تملكه إلا الدولة، فهو أيضا يقع عبر نظام صارم؛ حفظا للقيمة الشرائية للنقد، سواء بغطاء ذهبي أو غيره، أو بغير غطاء - كما تجازف به بعض الدول - وللريال الذي تصدره مؤسسة النقد بالمملكة قيمة تعادل 482/197 في المائة جرام من الذهب الخالص - حسب المادة الثانية من نظام النقد - وتسمى هذه القيمة سعر التعادل، ولا يجوز تعديل سعر التعادل إلا بمرسوم ملكي، وهذه الولادة للنقد التي تقوم بها البنوك المركزية مما تقتضيها المصلحة العامة، فلا يمكن قضاء حوائج الناس إلا بها.
3- توليد ''النقد من السلع والخدمات''، عبر أسلوب البيع والسلم والإجارة والشركة والمزارعة... إلخ، وهذا التوليد يقوم به الأفراد والمؤسسات والشركات وغيرهم. وهذا الأخير هو الأسلوب الطبيعي للتوليد، فولادة النقد لا ينبغي أن تكون إلا عبر سلع أو خدمات، فالنقد لا يلد النقد، وإنما يولد سلعة أو خدمة، وهما يولدان النقد، فالبائع يلد النقد في يده من الثمن الذي أعطاه إياه المشتري مقابل المثمن، والمؤجر يلد النقد في يده من الأجرة التي أعطاه إياها المستأجر مقابل منفعة السكن، وهكذا..، وقديما حذر الفقهاء من توليد النقد من النقد، كما قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: (ويمنع من إفساد نقد الناس وتغييره، و''يمنع من جعل النقود متجرا''، فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله. بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال، يتجر بها، ولا يتجر فيها..) أ.هـ .
4- توليد ''النقد من النقد'' عبر أسلوب الإقراض من الودائع. وهذا التوليد يقوم به البنوك التجارية، ومنها أكثر البنوك السعودية في المملكة - حيث تصنف بأنها بنوك تجارية - وإن كان بعضها يمارس الآن دور البنك الاستثماري عبر أذرعة استثمارية، أو ما يسمى بصناديق الوساطة التابعة للبنك التجاري، وتقديم منتجات استثمارية كالمرابحة للواعد بالشراء، والتأجير مع الوعد بالتمليك... إلخ، والجهات المعنية وإن وعدت ''قبل أشهر'' بتحويل المؤسسات والصناديق المالية إلى بنوك استثمارية بدأ من ''الشهر الماضي..!'' إلا أنها لا تزال كما هي، وهذا التوليد ''من النقد'' هو الذي نحن بصدد الحديث عنه، فالمقال، لا يستهدف الولادة النظامية ولا الطبيعية للنقود، وإنما يستهدف الولادة القيصرية، أو عملية الاستنساخ النقدي، والتي تتم عن طريق الأسلوب الأخير، والواقع أن عملية التوليد هذه التي تتم من خلال البنوك التجارية هي ألأسلوب الوحيد الذي اشتهرت به عملية التوليد، أو ما يسمى بعملية ''خلق النقود'' ويمكن الإفصاح عنها بشكل مبسط، من خلال المثال الآتي:
البنوك التجارية تقوم بعملية توليد النقود من خلال قيامها بوظيفة قبول الودائع، ثم إقراضها، فمثلا: عندما يقوم زيد بإيداع مبلغ وقدره (20 ألف ريال)، فالبنك يقتطع منه الاحتياطيات والودائع النظامية - حسب نظام مراقبة البنوك وصلاحيات مؤسسة النقد - بواقع 25 في المائة مثلا (خمسة آلاف ريال) كاحتياطيات وودائع، يوضع بعضها في خزانة البنك، وبعضها الآخر في خزانة المؤسسة، ويتبقى من وديعة زيد 75 في المائة (يعني 15 ألف ريال)، فيأخذ البنك هذا المبلغ الأخير، ويقرضه لعمرو، ثم إذا قام عمرو بشراء بضاعة من خالد بالمبلغ الذي اقترضه، فجاء خالد إلى البنك، وأودع فيه هذا المبلغ الذي باع به البضاعة (15 ألف ريال)، فإن البنك التجاري يكرر العملية السابقة نفسها مع عميل آخر، فنلاحظ أن النقود كانت أولا (20 ألف ريال) ثم تولد منها وديعة أخرى، قدرها (15 ألف ريال) ناتجة من عملية الإقراض التي قام بها البنك، وبالتالي كان النقد أولا (20 ألف ريال) ثم أصبح ثانيا (35 ألف ريال)، ويمكن أن يتوسع البنك، فيخالف المسموح له، ويولد النقد من الاحتياطي النظامي، أو من احتياطي السيولة، حيث إن توليد النقود من هذه الاحتياطيات القانونية يعد مخالفة صريحة لنظام مراقبة البنوك الذي يلزم بحد أدنى من الاحتياطي القانوني، سواء كان الاحتياطي النظامي الحامي لرأس المال، أو كان احتياطي السيولة الذي يمثل خط دفاع أول لطلبات الودائع الجارية، وهنا لمؤسسة النقد أن تعاقب البنك وفق المادة الثالثة والعشرين من نظام مراقبة البنوك؛ لما في توليد النقود من الاحتياطيات النظامية من ضخ لسيولة تؤذن بعرض كبير للنقود، كما أنها قد تعرض أموال المودعين للخطر.
لكن إذا التزم البنك التجاري، فلم يولد النقد إلا بعد استبعاد الاحتياطي، فهل تعد هذه ولادة طبيعية..؟
الواقع أنها ليست ولادة طبيعية، بل قيصرية؛ لسبب بسيط جدا، وهو أن الوديعة الأولى يجري عليها البنك عملية جراحية، فيستخرج من رحمها نقدا، يقرضه لآخر، وهذه العملية تزيد من حجم الائتمان، وترفع من حجم السيولة؛ مما تضطر معه البنوك المركزية لمراقبة هذه العمليات المتكررة، لئلا ينتج منها عرض كبير للنقود يستنزف القوة الشرائية للنقد، ويؤدي إلى حالة نزف كبير من دخول الناس اليومية.. هذا فيما إذا كان الإقراض بفائدة، كما هو واقع الإقراض في البنوك التجارية. وقرارات المجامع والهيئات الفقهية الرسمية وغيرها على أن الفائدة بجميع أنواعها وأشكالها من الربا، وبناءً عليه، فما تقوم به البنوك التجارية من توليد النقود غير جائز، والبنوك السعودية اليوم تتجه نحو تخليص واقعها من عملية التوليد هذه.
أما توليد النقود من قبل البنوك التي تولدها عن طريق السلع والخدمات، فهنا يختلف الحكم بحسب أسلوب التوليد، فإن كان بطريقة الفائدة الربوية المغلفة بغلاف شرعي، فإنه يكون محرما - كما سبق - وإن كان التوليد بطريق التمويل بالمشاركة أو بالمرابحة غير المنظمة أو بغيرها من أساليب الاستثمار، مما تكون فيه السلع حقيقية، وتنتقل فيه المخاطرة أو الضمان إلى البنك، ثم إلى العميل، فإنه يكون جائزا؛ لأن التوليد حينئذ من السلع والخدمات، لا من النقد، والله تعالى أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي