مهمة داخلية
يعد الفيلم الوثائقي مهمة داخلية Inside Job أفضل ما أنتج عن الأزمة المالية الأخيرة والمسار التاريخي لها من تضارب المصالح الذي أسهم في حشد الظروف والعوامل التي أدت إلى اندلاع الأزمة. هذا الفيلم الذي أطلق في مهرجان كان، وفاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي لعام 2011، يلخص بشكل لم يسبقه إليه أي كتاب أو فيلم وثائقي آخر، العلاقة بين ثلاث فئات من الناس، هم السياسيون، والمصرفيون، والأكاديميون، وتجاذب وتبادل المصالح بين هذه الفئات الثلاث، التي أسهمت في توجيه الأنظمة لخدمة مصالح الطبقة الكبرى من المصرفيين الذين كانوا الكاسب الأكبر قبل الأزمة العالمية وبعدها.
يبدأ الفيلم باستعراض الجذور الرئيسة للأزمة المالية الحالية التي تعود إلى بداية حقبة رئاسة رونالد ريجان للولايات المتحدة، الذي قاد حملة كبيرة للحد من التشريعات المقيدة لقطاع الأعمال، وبالتحديد للقطاع المصرفي Deregulation، ونشطت هذه الحملة في بداية التسعينيات الميلادية، حيث شملت إلغاء الكثير من التشريعات المقيدة لأنشطة البنوك التجارية والاستثمارية وما نتج عنها من تركز الثروة في عدد قليل من هذه المؤسسات. التطور الأكبر حدث بعد التوسع الكبير في أنشطة المشتقات المالية، التي كان لها دور كبير في تراكم المخاطر على مدى عدد من السنوات التي أدت إلى الأزمة المالية الأخيرة. وفي هذا الإطار، يستعرض الفيلم على سبيل المثال المعارضة الكبيرة التي ووجهت بها بروكسلي بورن التي عينها الرئيس كلينتون على رأس هيئة تجارة السلع والمستقبليات عندما بدأت حملة لوضع تشريعات لتنظيم أسواق المشتقات، حيث تلقت اتصالاً وتوبيخاً من مساعد لاري سومرز وزير الخزانة الأمريكية آنذاك، كما وقع كل من آلان جرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي، وروبن وزير الخزانة وآرثر ليفت رئيس هيئة الأسواق المالية، خطاباً مشتركاً يستنكرون فيه عزم بورن على وضع تشريعات تنظم التجارة في المشتقات.
هذا الأمر أدى إلى حملة تشريعية أخرى للحد من أي محاولة لوضع تشريعات للمشتقات، حيث صدر قانون عام 2000 يمنع أي تشريع للمشتقات المالية. كانت هذه هي الفرصة للمؤسسات المالية لإصدار المزيد منها، حيث أصبحت وسيلة لتحويل المخاطر إلى أشخاص لا يفهمون ما تحويه فعلاً من مخاطر. ففي الوضع العادي، يتحرى المقرض عن المقترض كي يضمن عودة أمواله إليه. لكن في حالة المشتقات لا يحتاج المقرض إلى ذلك لأنه سيقوم ببيع هذه القروض لبنك استثماري، الذي سيقوم بدوره ببيعها للمستثمرين بعد وضع أعلى تصنيف لها من قبل إحدى مؤسسات التصنيف الائتماني التي ستتقاضى رسوماً مجزية لقاء ذلك. أي أن اللعبة مشتركة بين ثلاثة أطراف رئيسية: البنك المقرض، والبنك الاستثماري، ومؤسسة التصنيف الائتماني. النتيجة كانت تضاعف قيمة القروض المصدرة بشكل مخيف من 30 مليار دولار إلى 600 مليار دولار خلال عشرة أعوام فقط. هذا بالطبع ترافق مع ارتفاع كبير لمكافآت المديرين التنفيذيين العاملين في المؤسسات المالية بشكل كبير مع ارتفاع قيمة القروض المصدرة، حيث حصل على سبيل المثال الرئيس التنفيذي لبنك ليمان برذرز في عام واحد على ما قيمته 485 مليون دولار من المكافآت، كما حصل الرئيس التنفيذي لـ AIG على أكثر من 300 مليون دولار في عام واحد.
لكن هؤلاء المديرين التنفيذيين لم يكونوا المستفيدين الوحيدين من ذلك، بل شاركهم في ذلك آخرون مثل لاري سومرز الذي حصل على أتعاب بلغت 20 مليون دولار أمريكي جراء تقديمه استشارات لأحد صناديق التحوط العاملة في مجال المشتقات المالية، وحصل فرانكلين راينز الرئيس السابق لمؤسسة فاني ماي على ما قيمته 52 مليون دولار من المكافآت. الأكاديميون لهم أيضاً نصيب من هذه الكعكة، حيث عين الكثير منهم أعضاء في مجالس إدارات المؤسسات المالية الكبرى، وحصدوا مبالغ طائلة للكتابة عن مواضيع تصب في مصالح من دفع لهم. بل إن أحدهم، قام بتغيير عنوان ورقة بحثية أعدها عن النظام المالي في آيسلندا بعد إفلاسها من (استقرار النظام المالي) إلى (عدم استقرار النظام المالي في آيسلندا). ردة الفعل لبعض هؤلاء الأكاديميين الذين تم لقاؤهم في الفيلم الوثائقي عندما تمت مواجهتهم ببعض الحقائق من قبل المقدم كانت محزنة ومضحكة في الوقت نفسه. سأل المقدم أحد رؤساء الأقسام الأكاديمية عن المقارنة بين طبيب يصف دواء واحدا فقط من إحدى الشركات التي تدفع له مقابل ذلك، وبين باحث اقتصادي يصف الوصفة نفسها ضد التشريعات ويدفع له من قبل المؤسسات التي تستفيد مباشرة من ذلك، فكانت إجابته عبارة عن همهمات متقطعة فقط.
وأخيراً يتطرق الفيلم أيضاً إلى دور مؤسسات الضغط التي توظفها المؤسسات المالية للعمل على الحد من التشريعات، حيث دفعت في عام واحد ما قيمته خمسة مليارات دولار لتمويل أنشطة حشد الدعم لها، خصوصاً بين أعضاء الكونجرس الأمريكي. النتيجة أنها كانت أكثر المستفيدين حتى من الأزمة المالية، حيث تم انتشالها من الأزمة بأموال دافعي الضرائب بما قيمته 700 مليار دولار أمريكي. على سبيل المثال، تم انتشال AIG بما قيمته 160 مليار دولار تقريباً، وفي الوقت نفسه ودون السماح بالتفاوض حول ما ستدفعه من مبالغ لـ ''جولدمان ساكس'' لقاء سندات التأمين التي تحملها، دفعت AIG ما قيمته 14 مليار دولار لـ ''جولدمان'' مع تعهد بعدم مقاضاتها لقاء ذلك. بالطبع التسوية تمت برعاية هنري بولسون الرئيس السابق لـ ''جولدمان'' ووزير الخزانة آنذاك. الغريب في الأمر أن هذه المؤسسات المالية تبيع سندات الرهن العقاري، ثم تقوم بنفسها بالمراهنة على خسارتها، لأنها هي التي تعلم فقط ما تحمله من مخاطر.