هل التأمين الصحي أحد أوجه تمويل الرعاية الصحية؟
لا شك أن التأمين الصحي أصبح تخصصا ممنهجا يتم فيه تحضير شهادات عليا في مختلف جامعات العالم وبشتى مجالاته الفرعية، إلا أن تطبيقه هو الذي لم يمنهج بعد. حيث إنه لم يكن مركزا فعلا على أن يكون أحد أوجه تمويل الرعاية الصحية في السعودية، فانحرافه حقق لطرف غايته وظل الطرف الآخر يبحث عن ضالته. إن أسئلة الأفراد لا نهائية، وأسئلة الشركات عديدة وأسئلة الأجهزة الحكومية مركزة، حيث مصالح كل منها. السؤال المهم: هل حقق التأمين في الفترة الماضية، ''عشر سنوات''، آمال الدولة بأجهزتها المختلفة، والمواطنين في كل مكان، والوافدين أينما حلوا وعملوا، والقطاع الخاص فيمن قدم الخدمة؟ أعتقد أنه طالما أننا نتلافى مناقشة الموضوع بجرأة وشفافية ونكرس الجهود لتحقيق فوائده فعلا، فإننا سنظل نعقد المؤتمرات ونرخص للشركات ونعتمد المستشفيات وسيظل الفرد يدفع الفاتورة ولن يكون في ذلك تمويل للرعاية الصحية أبداً.
في المؤتمر الأخير الذي عقد في الرياض جاءت الأسئلة الحرجة والملاحظات القيمة والاستدراكات المهمة من الحضور، في حين كان من المتوقع أن يثير المتحدثون الدهشة لما وصلوا إليه من حلول وقناعات تعزز ما آل إليه البرنامج. إن عدم الرضا العام كان هو الغالب فعلا وهذا ما لوحظ وشوهد وانتهى إليه المؤتمر فعلا في تصريحات وزير الصحة الذي وضع يده على كثير من الجراح. بالطبع يشكر وزير الصحة لاهتمامه بعدة أمور أهمها الشفافية التي بدأنا نلاحظها في شؤون الصحة وبالذات الوزارة، إلا أننا أيضا نريد حلاً عاجلا، فهذا الشأن واقعه غير مقبول ومستقبله غير مضمون ولا يزال الصرف مستمرا.
إذا أردنا فعلا أن نغوص لحل الأزمة التي أخذ القطاع الخاص الزمام فيها فإن إعادة الدراسة ستبدأ من: (1) تحديد بعد ماهية التأمين في المملكة فما تمت الموافقة عليه ليس إلا ما يتم تطبيقه في دول العالم، وبالتالي لا فرق بين ضمان وتأمين، وبين تعاوني وتجاري، وسنظل عشر سنوات أخرى نبحث عن تعريف مناسب له. بل قد ندخل الموضوع للتحريم والتحليل مرة أخرى إذا ما فتحت أبواب التعاوني والتجاري والاستفادة المشروعة وغير المشروعة... إلخ. (2) إعادة صياغة لائحة الضمان الصحي التي ما زالت تخلق الفجوات للقطاع الخاص. (3) إشغال جميع القطاعات المعنية بتحقيق وجهة البرنامج بطريقة مباشرة وغير مباشرة. فلا بد مثلا أن يكون لوزارة التعليم العالي ممثلة في الجامعات دور في القضية، فقد أصبحت مسألة التأهيل والإعداد والتدريب ضرورية لإيجاد هيبة للقطاع تُحترم إذا أريد له أن يكون موردا لدعم الرعاية الصحية. مؤسسة النقد وهيئة سوق المال ومجلس الخدمات الصحية ومجلس الضمان الصحي والهيئة السعودية للتخصصات السعودية، إضافة إلى وزارة الصحة ووزارة التجارة ووزارة التخطيط ووزارة العدل وديوان المراقبة العامة بالتعاون من الإمارات في المناطق ستكون مشمولة في الدراسة المستفيضة لتحديد الأدوار وتأسيس المحكمة الخاصة بالتأمين إجمالا والصحي التعاوني خاصة.
من هنا سنضع أيدينا على تفاصيل ستكشف كيف حددت قيم البوالص، وكيف يتهرب المؤمن من تغطية كان قد تكفل بها وأوجد لنفسه المخارج من ذلك. وسيكتشف كيف يدفع المؤمن لمقدم الخدمة الصحية 40 ريالاً مثلاً على الكشف ويدفع الفرد 160 ريالا إضافية في كل زيارة لمقدم الخدمة، لأن الطبيب المعني له ''أجرة غير''. كما إذا احتاج فرد لنقل إسعافي وكان متوافرا عن طريق قطاع خاص فسيعرف من سيتحمل هذه التكلفة. كما ستبدأ وزارة الصحة بتحديد أي المرافق الحكومية التابعة لها مغطاة بالتأمين ويتم تقديم الخدمة بها حسب مستوى التغطية. أما من ناحية خريطة توزيع الخدمات الصحية بين الجهات المختلفة في القطاع على مستوى المملكة وإسقاط الأحداثيات وتحديثها فستكون متوافرة لكل فرد من خلال المواقع الإلكترونية وأجهزة المواقع الجغرافية في السيارات. هذا سيوضح إذا كنا نضع مع عناصر مثل السن ونوعية السكن ومستوى التعليم وعدد أفراد الأسرة والحالة الصحية وقت الاشتراك والبيئة المحيطة، عنصرا آخر وهو بعد السكن عن أقرب مركز للرعاية الصحية الأولية أو مستشفى علاجي. كما أن ذلك سيفتح المجال للمناقشة الإيجابية لكيفية زيادة الاستثمار في المناطق منخفضة التعداد السكاني وبالتالي التغطية الصحية.
وأخيرا، مع أن التطبيق التدريجي أُهمل وتم الإسراع في تحقيق الإنجازات ''تجاريا'' مما جعلنا نتوسع في تفسير الشروط واستعجلنا في تقدير معدل النمو السنوي للناتج المحلي الذي اختلف خلال عشر سنوات من 4.15 في المائة إلى 5.2 في المائة. فإن المعادلة ومكوناتها المحققة لقيمة البوليصة في النهاية لا بد أن تتغير وشمول بعض الفئات بالتغطية أيضا يحتاج إلى إعادة نظر. في رأيي نحتاج بعد تبني الدراسات العلمية المستفيضة بين طبية واقتصادية، أن يتم: (1) إعداد القوى العاملة السعودية بشكل متوازن في سوق العمل، (2) تكثيف التثقيف والتوعية المتخصصة الناضجة، (3) تحديد أدوار جميع الأجهزة المعنية المختلفة والالتزام بها، (4) تكثيف المراقبة المباشرة والمتخصصة، (5) استخدام التقنية المكثف في جميع الأطراف والربط بينها لتحقيق النقطة السابقة، (6) المراجعة الحسابية الدائمة ووضع دليل معياري، (7) التطبيق المتدرج للتأمين، (8) الإسراع في التجاوب مع الشكاوى، (9) تطبيق الجزاءات حسب اللوائح بصرامة. بهذا الحراك يمكن أن يؤسس لاستراتيجية متكاملة ستجعل المؤتمر القادم ثريا بتجارب مفيدة وإيجابية. كما يؤمل أن تكون توصياته حامية لنا من ابتكار سياسات جديدة أغرقت دُولاً تريد حلا للخروج من مأزقها الآن ولم تستطع بعد.. والله المستعان.