من غرائب المجتمعات.. اليوم المجنون
يوجد في بعض المجتمعات غرائب في السلوك والتصرفات أو بعض العادات والتقاليد يصعب تصديقها في بعض الأحيان، خاصة من قبل الأفراد الذين لا يعرفون ثقافة المجتمع وليس لديهم اطلاع على مكوناته الحضارية، ولا يعرفون طريقة تفكير أناس.
ويزيد الاستغراب بشأن بعض الأمور حين تكون مثل هذه الأشياء موجودة في مجتمع يظن المرء أن التقدم والتطور فيها في كل المجالات السياسية والاقتصادية والتقنية والسلوك العام وغيرها مثل أوروبا وأمريكا، التي توجد صورة إيجابية لدى كثير من الناس الذين لم يزوروا مثل هذه البلدان، وقد يظن الفرد من المجتمعات الأخرى أن هذه المجتمعات كاملة في أمورها كافة، ولا يوجد فيها ما قد يثير الاستغراب أو الاشمئزاز، إن أردت أن تقول.
عندما ذهبت للدراسة في الولايات المتحدة، وفي أول سنة كنت أسير في أحد الشوارع وإذا بجمع من الناس متحلقين على سيارة ويراوح الجمع العشرين فرداً من الشباب الذين في سن الجامعة فما فوق، ولفت نظري وجود مطارق في أيدي هؤلاء الشباب، ومن باب حب الاستطلاع تقدمت نحوهم وغيرت مسار طريقي رغبة في معرفة ما يدور، حيث تصورت للوهلة الأولى أن هذا حراج على سيارة، لكن عقلي لم يقبل مثل هذا الافتراض الذي راودني، إذ كيف أفسر وجود المطارق التي تزيد الواحدة منها على عشرة كيلوجرامات؟! وقف القادم من بعيد ومن مجتمع مختلف تمام الاختلاف في ثقافته وقيمه ينظر ويتفرج ويستمع إلى الأحاديث بين الحضور. دقت ساعة الصفر وإذا برئيس المجموعة أو الشلة يعلن البداية، حيث أخذ كل واحد منهم يضرب السيارة بمطرقته بكل ما أوتي من قوة، فهذا يهشم الزجاج، وآخر يضرب من الأعلى، وثالث يضرب الأبواب، ورابع يضرب من الخلف، وبدا لي المشهد كما لو أنهم في مباراة وتنافس لتحقيق أكبر دمار في السيارة، حيث تحولت إلى ركام من حديد وزجاج لا قيمة ولا فائدة فيها على الإطلاق وليس لها مكان سوى حاوية النفايات.
بعدما فرغ الشباب من هذه المهمة الشاقة اقتربت من أحدهم وسألته عن سر ما يقومون به، فأجابني بأن هذا النشاط جزء من نشاطات يقوم بها الشباب في يوم يسمى اليوم المجنون. وتذكرت هذه الحادثة بعد عقود منها حين مررت بإحدى الحدائق العامة في مدينة الرياض وإذا بمجموعة من الشباب يرمون قوارير ماء مع كل واحد منهم ويصوبونها نحو أعمدة الإنارة المحيطة بالمكان، عندها تساءلت عن السر الذي دفع شبابنا وشباب أمريكا لفعل ما فعلوه رغم أن الحالتين يوجد بينهما شيء مشترك ألا وهو إتلاف شيء نافع وبينهما أشياء مختلفة، فشباب أمريكا حطموا وأتلفوا سيارة قد تكون ملكاً خاصاً لأحدهم، أو أن المجموعة اشترتها لهذا الغرض، في حين أن شبابنا عبثوا بشيء من الممتلكات العامة، كما أن نشاط الشباب الأمريكي جاء على شكل حفلة وفيها شيء من التنظيم والإعداد المسبق وكذلك يوم محدد، في حين أن عبث شبابنا يفتقد التنظيم ولا يوجد له يوم أو توقيت محدد، لكن الأمر المشترك بين المجموعتين والمهم تربويا ونفسيا هو أن كل هؤلاء يختزنون طاقات تحتاج إلى تفريغ، لكن في أنشطة وفعاليات مفيدة بدلاً من تركها لدى الشباب حتى تتحول فجأة ومن دون علمنا إلى طاقة مدمرة لأصحابها ومجتمعاتهم.
السلوك التدميري مهما كان مصدره وفي أي مجتمع لا شك أنه مرفوض عقلاً وشرعاً، إذ إنني لم أتقبل ذلك التصرف من الشباب الأمريكي، حيث قاموا بإتلاف السيارة، كما أن الإحساس نفسه تولد لدي وأنا أشاهد شبابنا يلعب وبصورة عبثية تتسبب في إتلاف ممتلك عام يستفيد منه بعض المارة ومرتادو الحديقة. هل ما يوجد لدى الأفراد من تصرفات وأفعال يوجد لدى الدول والأمم؟ مقارنة قد تبدو لأول وهلة عجيبة وغريبة، لكن عندما نعود بالذاكرة إلى بعض الأحداث التي أقدمت عليها بعض الدول نجد أنها تمارس سلوكيات عبثية غير مقبولة عقلاً ومنطقاً وشرعاً، إذ إن رمي الفائض من محصول القمح في أعماق البحار والمحيطات في حين يوجد الملايين من الناس يموتون جوعاً، كما أن الحروب التي تشنها أمريكا في كل من أفغانستان والعراق وغيرها دليل على وجود طاقة نفسية لها محفزات ثقافية أو حضارية أو سياسية أو اقتصادية أو غيرها لدى متخذي القرار والساسة في تلك الدولة تدفعهم لفعل ما يفعلونه في حق الشعوب والمجتمعات الأخرى.
ومهما كان السلوك العبثي في نوعه أو مصدره فرداً أو دولة يبقى أنه منبوذ ومرفوض وصدق الباري، حيث يقول ''وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ''.
اليوم المجنون تم توظيفه توظيفاً حسناً، حيث إن إحدى المدارس في أستراليا طلبت من الطلاب حلق رؤوسهم في يوم يحدد في كل سنة، وذلك تعاطفاً مع مرضى السرطان، الذين يفقدون شعورهم، وقد وجدت هذه الدعوة استجابة من الطلاب وأولياء الأمور، نظراً لما فيها من مساندة معنوية، وكذلك لما فيها من تغيير ماتع للأطفال. كما أن هذا الاسم امتد، ليكون يوماً مملوءا بالأحداث والمتعة كأن يقضى في رحلة يتم فيها أنشطة ذات قيمة ومختلفة عن الأيام الأخرى.