قطاعات أخرى تسهم في تحديد مستوى الخدمات الصحية
إن نقص الوظائف أو أعداد القوى العاملة في القطاع الصحي مسألة يعانيها العالم أجمع. تقارير منظمة الصحة العالمية والتقارير المنشورة لكثير من الدول التي تتحرى الدقة إلى حد كبير في نشر بياناتها، تؤكد أن المشكلة في القطاع الصحي في كل دولة ومهما اختلفت الأسباب، فهناك حاجة إلى حلول عاجلة مع تنامي أعداد السكان على مستوى العالم. عالمياً سجلت منظمة الصحة العالمية الأرقام في تقاريرها منذ أكثر من عشرة أعوام وراح الخبراء يدرسون وينشرون نتائج الدراسات كل في موطنه ليتعلم الآخرون كيف يتبنون ما يتلاءم ونمط المعيشة في كل مجتمع. هل قمنا في مملكتنا الحبيبة بقياس حجم المشكلة وماهية الحلول المطروحة وما يمكن تجربته ليتسنى لنا معرفة المفيد لنا منها؟ شخصيا لم أقرا مثل هذا البحث أو دراسة وطنية تضع النقاط على الحروف. في رأيي لا بد على الصف الثاني في كل من وزارة الخدمة المدنية ووزارة العمل ووزارة التجارة ووزارة النقل ووزارة الصحة ووزارة المالية أن يجلسوا ليرسموا خريطة طريق، ثم من بعد ذلك يمكن أن نبدأ العمل ونقرر وباطمئنان مدى ما إذا كنا نقلص حجم المشكلة أم أن الجهود غير كافية.
إن من أهم الإجراءات حاليا هي وضع الأيدي على أسباب القصور والعزوف وانتقال كثير من القوى العاملة من جهاز إلى آخر. قد تحتل الأجور مرتبة متأخرة لكثير من الوظائف الصحية بعد التعديلات والإصلاحات المالية المتتالية. ولكن ما يجب الاهتمام به هو (1) تهيئة المواقع المختلفة في جميع المناطق لأن تكون بيئة عمل جاذبة، ثم (2) رفع مستوى أداء المنسوبين بالثقافة والمعرفة ليخففوا من حدة ضغط الزمن على تطوير الخدمات ويقلصوا حجم الخسائر والتكاليف المالية التي يمكن أن تصل إلى ثلاثة أضعاف التكلفة الحالية. إضافة إلى ذلك (3) الاهتمام بنظام موارد بشرية متكامل يحفظ الحقوق ويحفز على تطوير الذات لأن الأعوام الخمسة المقبلة ستشهد ضخا عدديا لنظام العمل، ولكن سوء الإدارة كفيل بأن يبقي على المشكلة دون حل.
إن تهيئة المواقع لتعني توفير أفضل الاتصالات المتاحة والتطوير التقني والتهيئة المكانية والتنمية العمرانية كالطرق السريعة والخدمات العامة. إضافة إلى توفير المواقع وتجهيزها بأفضل الوسائل الترفيهية وتغطية بعض النفقات الجانبية .. إلخ، كلها من ضمن حلول لا بد أن يتم تبنيها من قبل جهات غير صحية للمساندة في إتمام تكامل نظام الموارد البشرية مع نظام التنمية العمرانية. ثم من بعد ذلك تخصيص مرافق ثقافية اجتماعية متكاملة في كل مدينة طبية أو مستشفى لا يقل عن 300 سرير. هذا وسيوفر للجهات الصحية بما فيها وزارة الصحة سهولة عقد أي لقاء أو ندوة أو ورشة عمل سواء استضيف فيها خبراء من خارج المملكة أم محليين. كما أنه سيجنب الخروج دائما للبحث عن فنادق أو قاعة مؤتمرات في كل مدينة وتسهيل نشر المعرفة في الشأن الصحي.
أما من ناحية رفع مستوى الأداء فمبدئيا يمكن القول إن جزءاً كبيرا من العلاج وتقليص مدته وخفض فاتورته وتقليص الأعباء يعتمد على ثقافة المريض. فلو تم مثلا: تثقيف مقدمي الخدمة الصحية ليتمكنوا من تثقيف المرضى فإن المحصلة ستكون اكتساب الجهات الصحية عامة كانت أو خاصة موارد بشرية يمكن بها أن تقلص حجم الطلب على الأيدي العاملة بالمستوى الذي نشهده اليوم. كما أن التدخين الذي اعتبر آفة القرن الماضي سيكون كذلك هذا القرن إذا لم نؤكد على أن يتجنبه الممارس الصحي والعامل في المرفق الصحي قبل أن ننصح المريض. وعلى صعيد تقديم الخدمة تقنيا، فبالانتقال إلى تعميم استخدام الترميز الطبي ICD-10 عبر الحاسب سواء كان مقدم الخدمة في مستشفى أو مركز للرعاية الصحية الأولية أو أحد المراكز أو العيادات الوقائية فإنه قادر على أن يقفز بالخدمة لمواقع متقدمة جدا أو أن يجعلها تراوح مكانها بعدم التطبيق. هذا لن يتأتى بين يوم وليلة، بل لا بد أن يسبقه استغلال أيام السنة في عقد ورش عمل متواصلة وبرامج تدريبية متتالية، ما يعني استعدادا متواصلا وكبيرا. كما لا بد من تنظيم العمل التطوعي ونشر ثقافته والإشعار ببدء قياس عدد الساعات الأسبوعية لكل ممارس صحي من أجل أن تبادر بتكريم المتميزين وتقدر للمكرسين جهودهم في العطاء بما يعود على العمل بالتطوير والتحسين والجودة في الأداء.
من ناحية نظام متكامل للموارد البشرية فأهم نقاطه هي الاختيار مع فسح المجال للترقي ثم منح المميزات، حيث إن تغطية جميع منسوبي القطاع الصحي بالتأمين الصحي التعاوني سترفع من معدل العطاء والأداء. كما أن المبادرة بمتابعة مقدمي الخدمة وكفالة حمايتهم من أذية أنفسهم كاستخدام الإبر (الحقن) غير الآمن أو الاحتياط بضوابط وإجراءات صارمة عند التعامل مع المرضى المصابين بأمراض الكبد الوبائي والأمراض الفيروسية والبكتيرية الأخرى، ستخفض قيمة الفاتورة التي كلفت ثلاث دول فقط أكثر من 500 مليون دولار سنويا لعلاج الحالات.
هنا يمكن القول إن بين سلبية الوضع وحق الفرد في اختيار الأفضل له تكمن مشكلة القصور في القوى العاملة والأداء في القطاع الصحي، ولا بد من دراسة وطنية محلية واسعة تحدث كل سنتين تمكننا من فهم وتفسير كثير من التناقضات. والله المستعان.