الإدارة الأمريكية ومراكز الدراسات.. الاختلاف حول الموقف من ليبيا
يثير الموقف الأمريكي الرسمي حيال الوضع في ليبيا تساؤلات عديدة، تطاول طبيعته وأهدافه وأسباب اختلافه مع التوصيات التي تخرج بها دراسات وتقارير مراكز البحوث والدراسات الأمريكية التي تطالب في معظمها باتخاذ خطوات ملموسة وحاسمة، تسهم في تعزيز وضع الثوار وإنهاء حكم العقيد القذافي.
وتجد تلك التساؤلات وجاهتها في المماطلة والارتباك والتردد التي وسمت موقف الولايات المتحدة تجاه الوضع الليبي منذ اندلاع الثورة الليبية ضد نظام القذافي وإلى يومنا هذا، والتي تتحكم فيها ـ بلا شك ـ حسابات المصالح والسياسات الأمريكية في المنطقة العربية. إضافة إلى حسابات التقديرات المتضاربة حول أخطار التدخل العسكري الأمريكي والمكاسب والنتائج المترتبة عليه، خصوصاً بعد التحول الاضطراري للثورة الليبية من ثورة شعبية سلمية، على النمط التونسي والمصري، إلى ثورة مسلحة، اضطرت إلى استخدام السلاح للدفاع عن النفس في وجه إبادة لا يردعها رادع غير القوّة العسكرية، الأمر الذي زاد من شدة الارتباك الأمريكي حيال الوضع الليبي الخاص.
مواقف مراكز البحوث
تطرح مراكز البحوث والدراسات الأمريكية سيناريوهات عديدة لكيفية التعامل الأمريكي مع تطورات الوضع في ليبيا، تختلف باختلاف مواقعها وتوجهاتها، لكنها أغلبها يدفع باتجاه استعجال القيام بخطوات ملموسة على الأرض. وتذهب تحليلاتها إلى الأوضاع على الأرض في ليبيا، وتناول مجمل الخيارات العسكرية والسياسية المتاحة أمام الولايات المتحدة والدول الغربية، ودراسة أهلية القوة العسكرية وإمكانات الثوار الليبيين والقوات العسكرية والكتائب الأمنية الموالية للقذافي، وقدرة كل منهما على الحسم العسكري. وإمكانية تطور الأزمة الليبية إلى حرب أهلية، في ظل استمرار تشبث القذافي بالسلطة، واستعداده لقتل المزيد من أبناء الشعب الليبي.
وفي هذا المجال، أعربت ''مؤسسة هيريتيج''، المعروفة باتجاهها اليميني عن عدم ارتياحها لسياسة الرئيس باراك أوباما تجاه الوضع في ليبيا، وطالبته بضرورة النظر في تقديم الأسلحة والذخائر للثوار، إلى جانب الدعم الاقتصادي والدبلوماسي والاستخباراتي، ومساعدة الليبيين للتخلص من القذافي باستخدام وسائل عدة. وطالب ''معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى''، الذي يمثل المؤسسة الفكرية للوبي الإسرائيلي، بالتدخل العسكري الأمريكي في ليبيا، وتركزت نقاشات باحثيه على خيارات التدخل العسكري المتاحة، معتبرين أن ''نطاق العمل الممكن اتخاذه من طرف الولايات المتحدة، إلى جانب تدابير دولية أخرى، ليس محصوراً في إنشاء منطقة حظر الطيران أو عمل لا شيء''، وأنه '' على الرغم من المخاطر، فإن التدخل العسكري ضد النظام قد ينتج عنه عدد من الفوائد المهمة، إذ من شأن التدخل أن يحافظ على أرواح عدد لا بأس به من الناس. لكن إذا لجأ المتظاهرون غير المنظمين وبسلاحهم السيىء لمواجهة قوات النظام المسلحة جيدا في الشوارع، فإنهم على الأرجح سيلاقون حتفهم بأعداد كبيرة. والنتيجة ذاتها ستكون إن قرر النظام شن حملة شرسة لاستعادة السيطرة على المناطق التي خسرها. وسيفضي التدخل العسكري إلى نهاية سريعة للنظام، وبخسارة أقل على المستويات السياسية والداخلية والتفكك الاقتصادي. ومهما كانت طبيعة الآلية التي ستنهي النزاع، فإنها لن تكون لطيفة، لكن حسم الأمر بشكل عاجل يبقى الخيار الأفضل مما سيؤول إليه استمرار الوضع القائم''. وفي السياق ذاته طالب ''المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي'' باعتماد خيار التدخل العسكري، ''لحماية السكان والانحياز لجانب الثورة الليبية ومعاقبة القذافي''، لأن ''الولايات المتحدة ستبرهن على أقصى درجات ما يمكن أن يتحمله الغرب من ديكتاتوريات متهورة مهووسة ودموية''. ورأى بأن ''سلاح الجو الليبي يتكون بعضه من مقاتلات فرنسية من طراز F-1، وبعض طائرات سوخوي القديمة، وبعض طائرات الميج القديمة أيضاً. وهناك بعض المروحيات المقاتلة وهي في حاجة لتحطيمها. وسيستغرق الأمر نحو 20 دقيقة لسلاح الجو الأمريكي للقيام بالمهمة، أو كقوة مشتركة مع حلف دول الناتو، وهو الأفضل''.
وحسب تصورات مركز الدراسات العربية والأمريكية، فإن الخيارات المطروحة أمام الولايات المتحدة تتركز في إطار سيناريوهين، ينهض أولهما على تقديم دعم غير عسكري إلى الثوار، ويتجسد السيناريو الثاني في تقديم مساعدة عسكرية محدودة من أطراف متعددة، الأمر الذي سيسهم في تعزيز وضع الثوار.
ونال خيار التدخل الأجنبي موضع اهتمام مؤسسة ''كارنيغي''، التي حذرت الولايات المتحدة من ''ضرورة التروي قبل الإقدام على التزام عسكري في ليبيا مفتوح الأجل''. ونشرت هذه المؤسسة تقريراً يعتبر أن ''عالم اليوم يشهد بداية لحظة تاريخية عملاقة. وقد تشهد الولايات المتحدة تغيرات كبرى في بلدان لها أهمية عالية في سياق المصالح القومية الأمريكية تفوق تلك التي في ليبيا''، لذلك ''ينبغي الأخذ بعين الاعتبار تداعيات التدخل العسكري التي لا يمكن التنبؤ بها والتي من شأنها أن تشكل سابقة في الإقليم بأن الولايات المتحدة لن تستطيع الوفاء بتعهداتها''. ورأى واضعو التقرير أن ''سقوط القذافي قد يقود إلى انهيار الدولة بالكامل''، معتبرين أنه ''في بلدان شبيهة بليبيا أو اليمن، حيث المؤسسات الحاكمة المستبدة يعتريها ضعف الأداء وغيابها أحياناً، فهي تبسط سيطرتها على البلاد وفق قاعدة متشعبة من العلاقات الشخصية؛ وحظوظ النمط الديموقراطي في الحكم تبدو بعيدة المنال. وعليه، فإن تغيير النظام بهذا الشكل من المستبعد أن يؤسس للديموقراطية. بل إن البديل المرجح سيكون خليطا من هيئات متشظية كالتي آلت إليها الأوضاع في الصومال لعقدين من الزمن''.
ومن جهته، قدم ''مركز أبحاث السياسة الخارجية'' تصورات عديدة للحل في ليبيا، أولها هو ''نجاح الإجراءات الصارمة المفروضة على ليبيا، والتي على ضوئها سيعيد النظام سيطرته على شرقي البلاد فيما بعد واستخدامه عامل التحكم في الاقتصاد وربما فرضه الحصار عليها. وقد يتبع ذلك حمام من الدم وسلسلة من الانتقامات العنيفة ضد مناهضي النظام''. وثانيها يتمثل في ''استمرار حالة الفوضى الراهنة وتشظي البلد إلى دويلات صغيرة''. وثالثها يتمثل في توصل بعض الميحيطين بالقذافي إلى إدراك أنه من أجل استمرارهم في السلطة ينبغي التخلي عن القائد العظيم، وما سيرافقه من ملاقاته حتفه أو نفيه خارج البلاد. وقد يؤدي ذلك إلى نشوب صراعات داخل النظام وصراعات أهلية تستخدم العنف''.
في المقابل، طالب ''مجلس العلاقات الخارجية'' باستخدام ''سلاح العقوبات لإيقاف الحرب الأهلية في ليبيا''، نظراً لأنها قد تدفع بعض مؤيدي القذافي للتخلي عنه شريطة ''شعورهم بأن الأمر أصبح ضد الزعيم''. واعتبر الباحثون فيه أن التحدي الحقيقي للمعارضين هو القصف الدائم من القوات البرية، مما يعني أن إنشاء منطقة حظر جوي سيكون له تأثير محدود، ولن يترك أثراً في معرض حماية المدنيين.
حيثيات الموقف الأمريكي
يلاحظ المتتبع لموقف الولايات المتحدة على أنها تعاملت مع الوضع في ليبيا، منذ اليوم الأول للثورة، بتردد وتريّث، وفق حيثيات معينة، وبشكل يوحي بأن الموقف الأمريكي يتسم بالارتباك أو التخبط.
ويحكم الموقف الأمريكي في حقيقته جملة من الحسابات المعقدة، البعيدة عن الأخذ في عين الاعتبار المشاعر والأحاسيس الإنسانية، إذ ليست الإدارة الأمريكية مستعجلة في أمرها لحسم خيار التدخل العسكري، كما تحاول بعض مراكز البحوث والدراسات دفعها إليه، كونها تعرف تماماً مخاطر القيام بهذا الخيار المكلف في ظل تورطها في العراق وأفغانستان، إضافة إلى أنها لا تعرف بدقة طبيعة وتوجهات الطرف البديل في حال التخلص من القذافي وأزلامه، حيث تتخوف من تحول ليبيا إلى دولة إسلامية، خصوصاً بعد ظهور قيادات إسلامية ليبية تصدرت المشهد السياسي في صفوف القوى المعارضة للقذافي في الآونة الأخيرة.
وتحدثت تقارير أمريكية عن وجود محتمل لناشطين من تنظيم القاعدة ومتشددين في صفوف الثوار الليبيين، وحملّت قادة المعارضة مسؤولية ذلك، مثيرة المخاوف الكثيرة لدى الإدارة الأمريكية من تكرار التجربة الأفغانية مع تنظيم القاعدة وطالبان. وقد تنبه القذافي بسرعة لفزاعة التهديد بخطر القاعدة والإرهاب، حيث أعلن أكثر من مرة وفي أكثر من خطاب عن وقوف القاعدة وتنظيمات إسلامية إرهابية خلف الثوار الليبيين، واعتبر أنها تهدف إلى نشر الفوضى والخراب في ليبيا والمنطقة، وأن نظامه هو صمام أمان لشمال إفريقيا والمنطقة وإسرائيل، الأمر الذي جعل القادة الإسرائيليين يحاولون دعمه ومساندته لدى الإدارة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يريد أن يتنحى القذافي عن الحكم، وطالبه بذلك في أكثر من مناسبة، إلا أن أصواتاً عديدة في الإدارة الأمريكية لا تريد التورط في تدخل عسكري واسع قادر على الإطاحة بالقذافي، وخاصة أن الولايات المتحدة مازالت تعاني تداعيات حربين فاشلتين في كل من العراق وأفغانستان، ومن تكلفتهما الباهظة. وحين قررت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التحرك عسكرياً، فإنها أعلنت أن هدفها ليس الإطاحة بالقذافي، بل حماية المدنيين في شرق ليبيا وخصوصًا في مدينة بني غازي. وتركت مسألة إسقاط نظام القذافي للشعب الليبي نفسه، وهو أمر يتفق مع مطالب الثوار. وعندما صدر القرار 1973 عن مجلس الأمن الدولي، الذي سمح بالتدخل العسكري، لم تغلق الإدارة الأمريكية ومعها دول التحالف الباب أمام المساعي السياسية، الهادفة إلى وقف إطلاق النار، والبحث عن مخرج للقذافي وأنصاره لترك السلطة ومغادرة البلاد.
ويمكن القول إن الولايات المتحدة، التي تركت قيادة التحالف لحلف الناتو، فضلت استراتيجية تنهض على عمل عسكري محدود، تهدف أساساً إلى إضعاف قوات القذافي، وليس القضاء عليها. وعمدت منذ البداية إلى الموازنة بين مصالحها والاعتبارات الأخلاقية، الأمر الذي حدّ من تحركاتها لحسم الأوضاع على الأرض عسكرياً، لكن محدودية ما أنجزته مع التحالف الدولي جعل المواجهات طويلة الأمد، فظهرت انعكاسات السلبية على صورة التحالف المواجه للقذافي. كما أن الولايات المتحدة أحالت شرعية أي تحرك عسكري تجاه ليبيا إلى جامعة الدول العربية، التي أعادت بدورها المهمة إلى مجلس الأمن والمجتمع الدولي، وقدمت تفويضاً عربياً رسمياً بفرض منطقة حظر طيران فوق الأجواء الليبية، لكن المسألة لم تنته بعد رغم ذلك التفويض.
من جهة أخرى، تبدو المعارضة الليبية غير متجانسة، وضعيفة عسكرياً، وترفض الدول الغربية الدخول في حرب برية، وفي الوقت نفسه لا تريد تسليح قوات المعارضة، خوفاً من أن يقع السلاح في يد تنظيمات وجماعات متشددة وإرهابية، يمكن أن تشكل تهديداً للغرب، كما أن التفويض الذي عملت بمقتضاه قوات الولايات المتحدة ودول حلف الناتو يستند في الأساس إلى حماية المدنيين، وبما يعني عدم التدخل كطرف مباشر مع المعارضة لإحراز نصر عسكري على قوات القذافي.
ويبدو أن جملة الحيثيات السابقة جعلت الولايات المتحدة تراهن على عامل الوقت لحل الأزمة، لذلك أشار المسؤولون الأمريكيون في البداية إلى أن عملية التخلص من القذافي ستستغرق ثلاثة أشهر، لكن يبدو أن الأمور ستطول أكثر، ويدعم ذلك معارك الكّر والفرّ بين الثوار وقوات القذافي. وتتناسب إطالة أمد المواجهة عسكرياً من طرف الولايات المتحدة ومعها دول التحالف الدولي مع ظروف دول التحالف الدولي ذاته، نظراً لانعدام التوافق الكامل بين أعضائه على الخطوات العسكرية والسياسية، باختلاف حسابات ومصالح كل طرف، ومدى استعداده للقيام بالأعمال المطلوبة لدعم الشعب الليبي.