جولدستون .. تقريره لم يعد ملكا له وتراجعه سابقة خطيرة ونتاج لضغوط إسرائيلية

يشكل تراجع القاضي ريتشارد جولدستون عن تقريره، الذي دان فيه "إسرائيل" على انتهاكها القوانين الدولية خلال عدوانها على قطاع غزة في نهاية عام 2008، سابقة خطيرة، على المستويين الأخلاقي والقانوني، تهزّ مصداقية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتطاول عمل منظمة الأمم المتحدة؛ لأن هذا التراجع يقلب الصورة، ويزيف الواقع في سياق محاولته تبرئة الكيان الإسرائيلي من الجرائم والمجازر التي ارتكبها جنرالات وجنود إسرائيليون في حق المدنيين الفلسطينيين، مقابل إدانة الطرف الفلسطيني الحاكم في قطاع غزة.
ولا شك في أن تراجع جولدستون يعود إلى جملة الضغوط الصهيونية التي مورست عليه، والتي أرادت من خلاله اغتياله سياسيا ومعنويا، ولم يستطع تحمل نتائجها. وجاء تراجعه في وقت تشهد فيه المنطقة العربية متغيرة ثورية، وتزداد فيه الاعتداءات العسكرية على غزة، الأمر الذي يفسر إمكانية إقدام إسرائيل على عدوان جديد على الشعب الفلسطيني فيها.

أهمية التقرير
ومعروف أن تقرير جولدستون، الذي صدر في أواخر أيلول (سبتمبر) من عام 2009، يشير إلى ارتكاب إسرائيل جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني خلال حربها على قطاع غزة التي استمرت طوال 27 يوما. وتكمن أهميته في أنه سجّل سابقة بحق ممارسات هذه الدولة العنصرية التي اعتادت على انتهاك جميع المحرمات التي تقرها المواثيق والأعراف الدولية، وفي كل مرة كانت تنجو من الإدانة والمحاسبة بالاعتماد على دعم ومساندة ساسة الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوربيين وسواهم. والتقرير يوصي، ولا يلزم، بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب على غزة. كما أنه لا يضمن تحقيق العدالة للضحايا الفلسطينيين، بل يدعو الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الانعقاد لبحث ما ورد فيه، ويطالب الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، بإبلاغ مجلس حقوق الإنسان بمدى التزام الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، بتوصياته. إضافة إلى أنه يوصي مجلس الأمن الدولي بإحالة القضية إلى محكمة الجزاء الدولية في حال رفض أي من طرفي النزاع، إجراء تحقيقات مستقلة بشأن الجرائم التي حصلت خلال الحرب.
لا شك في أن تقرير جولدستون تناول قضية إنسانية وأخلاقية قبل أن تكون سياسية أو حتى قانونية، وأشار بشكل جازم إلى أن إسرائيل ارتكبت أفعالا ترقى إلى مصاف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حق المئات من الفلسطينيين، خاصة النساء والأطفال. وتميز التقرير بأنه صدر عن لجنة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة ويرأسها قاض يهودي، الأمر الذي قطع الطريق على الاتهام الإسرائيلي المسبق والجاهز تجاه أية لجنة دولية بأن أعضاءها أو رئيسها معادٍ للسامية؛ إذ لا يمكن توجيه مثل هذا الاتهام إلى قاضٍ يهودي الديانة. ومثّل التقرير وثيقة قانونية مهمة جدا؛ كونه يشكل دليلا ومستندا، يمكن أن يستخدم في قضايا ترفع ضد إسرائيل، من طرف الأفراد والمنظمات وأسر الضحايا الفلسطينية، إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية؛ كونها جرائم تدخل ضمن اختصاصه، بحسب المادة الخامسة عشرة من نظام روما. كما يمكن تقديم التقرير كدليل مستقل إلى القضاء المحلي أو الوطني في أي دولة موقعة على اتفاقية جنيف الرابعة واتفاقية الأمم المتحدة لإبادة الجنس، إضافة إلى إمكانية استخدامه في طلب التعويض المدني عن الأضرار التي لحقت بالممتلكات خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وعليه، فإن تقرير جولدستون يتمتع بأهمية كبيرة، خاصة في جهة ردع وزجر إسرائيل وعدم إفلاتها في هذه المرّة من العقاب، وبما يعيد الثقة في العدالة الدولية، التي تبدو في أحيان كثيرة وكأنها عدالة الأقوياء ضد الضعفاء، وعدالة المنتصرين في الحروب والنزاعات الدموية ضد الضحايا.

حيثيات التراجع
يبدو أن الضغوط الإسرائيلية الكبيرة التي مورست على جولدستون جعلته ينقلب على ما جاء في تقريره، فكتب مقالا في بداية هذا الشهر نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، يزعم فيه أنه لو كتب تقريره، اليوم، لكان أصدر وثيقة مختلفة. مستندا في ذلك إلى حجة متهافتة، يزعم فيها أن لديه "اليوم معلومات عما حصل خلال حرب غزة أوفى بكثير مما كنا نملك خلال رئاستي لجنة التحقيق". وأن "من شأنها أن تؤثر على الاستنتاجات التي توصلنا إليها عن الطابع المتعمد لارتكاب جرائم ووجود جرائم حرب". في حين أن "الجرائم التي ارتكبتها حماس" - حسبما يزعم - "كانت متعمدة"؛ لأن الصواريخ استهدفت "بشكل لا لبس فيه أهدافا مدنية". وعليه يحاول جولدستون الانقلاب على نفسه كي يبرر زعمه بأن "إسرائيل" لم تكُ تستهدف المدنيين في قتلها، الأمر الذي يقدم الحجة والمبرر لجميع جرائم إسرائيل التي ارتكبتها؛ لأن المدنيين الفلسطينيين الذين قتلوا لم تقصد إسرائيل قتلهم، بل كانوا ضحايا ثانويين في أحسن الأحوال.
ويكشف الإسفاف في ما كتبه جولدستون، كي يبرر تراجعه، حجم الإرهاب الصهيوني الذي مورس ضده، حيث شنت إسرائيل، ومنذ صدور التقرير، حملة عنيفة ضده، وراحت تنبش في ماضيه، الذي زوّرت فيه كي يظهر جولدستون كقاض في نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، أصدر أحكاما بالإعدام ضد السود، كما اتهمته بخدمة أهداف حركة حماس. وتمّت مقاطعته في كل مكان، وحظر عليه حضور تعميد أولاده في الكنيس اليهودي في بلده جنوب إفريقيا، وحرم من الاستقبال في كل التجمعات الدينية السياسة والاجتماعية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية وجنوب إفريقيا، فضلا عن إسرائيل. ويبدو أنه رضخ من أجل تخفيف الحظر والحرمان الديني الذي فرض عليه، وفضّل خسارة نفسه وسمعته القانونية، لكنه لن يزيل حقيقة الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين منذ نشأتها وإلى يومنا هذا؛ لأنها قامت على المذابح والجرائم المرتكبة ضد المدنيين، كما تشهد الوثائق التاريخية الصادرة من الأمم المتحدة ومن سواها من المنظمات الدولية.
وبصرف النظر عن حيثيات تراجع جولوستون، فإن تقريره ليس ملكا له، بل للإنسانية جمعاء وللضحايا والأبرياء؛ كونه يكشف عن جريمة موثَّقة، كاملة الأركان، في عدوان إسرائيل على وقطاع غزة خلال نهاية عام 2008 وبداية عام 2009. ويمتلك سنده الدولي في مصادقة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عليه، الذي وجّه، ولأول مرة، صفعة قوية لإسرائيل ولحلفائها. وعليه، فإن صدقية المنظمة الدولية، ومعها النظام الدولي، وضعت على المحك، ولن يتمّ صونها إلا بإعادة الهيبة للقانون الدولي، من خلال احترام حقوق الإنسان وتقديم مجرمي الحرب الإسرائيليين إلى العدالة الدولية.

التهليل الإسرائيلي
تريد إسرائيل توظيف ما كتبه جولدستون سياسيا وقانوينا، وذلك في سياق اعتباره وثيقة تدين التقرير وصاحبه؛ نظرا لأنه شّكل حافزا للنشطاء الدوليين ومنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية على زيادة النشاط والفاعلية باتجاه العمل على نزع الشرعية عن إسرائيل، وتكثيف حملة مقاطعتها، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عليها. كما أعطى التقرير دفعة قوية لرفع قضايا تجاه قادة وجنرالات إسرائيل أمام المحاكم الدولية في العديد من الدول الأوروبية، حيث لم يجرؤ كل من تسيبي ليفني وإيهود باراك وغيرهما من زيارة بريطانيا وفرنسا وإسبانيا؛ خوفا من الاعتقال والملاحقة في القضايا المرفوعة ضدهما، بسبب تورطهما في جرائم قتل بحق أبناء الشعب الفلسطيني.
وهلّل القادة الإسرائيليون، السياسيون والعسكريون، لما وصفوه "صدقيتها وأخلاقية جنودها"، وراح جميع مسؤوليها يطلقون التصريحات والحملات الإعلامية المنظمة، فأعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو أن إسرائيل تعتزم التوجه قريبا إلى الأمم المتحدة لفحص ما إذا كان ممكنا إلغاء تقرير جولدستون، فيما طالب وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك بإرغام جولدستون على تقديم الاعتذار إلى إسرائيل. وراحت وسائل الإعلام الإسرائيلية تتحدث عن "الاعتراف بالخطأ"، و"التوبة"، وعن "أخلاقيات الجيش الإسرائيلي"، وهاجمت جولدستون على "تسرعه ومساهمته في حملة نزع الشرعية عن إسرائيل"، ودعته إلى الاعتذار الرسمي. أما وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان، فزعم بأن "تمسك إسرائيل بأهدافها وبالحقيقة واستعدادها لدفع الثمن كان وراء التحول في موقف جولدستون". أما على الطرف الفلسطيني، فقد أثار تراجع جولدستون ردود فعل غاضبة ومستهجنة، واعتبر أنه لا يغير من حقيقة أن إسرائيل ارتكبت مجازر وجرائم حرب في غزة بقتلها أكثر من 1500 مواطن فلسطيني من المدنيين الأبرياء، وأن التقرير هو تقرير أممي وليس تقريرا لجولدستون، وبالتالي على الأمم المتحدة متابعة مساعيها لمعرفة الحقيقة، بصرف النظر عن موقف جولدستون.
ويأتي تراجع جولدستون في ظل تصاعد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، وفي ظل تزايد احتمالات شن حرب إسرائيلية جديدة على غزة، التي مبرراتها في المزاعم الإسرائيلية عن وجود تنسيق بين حركة الإخوان المسلمين في مصر وحركة حماس، وتوجس إسرائيل من مغازلة إيران لمصر بعد رحيل مبارك، وتخوف إسرائيل من المتغيرات التي حملتها الثورات العربية. حيث ظهر القلق والتخوف في الجانب الإسرائيلي منذ الأيام الأولى للاحتجاجات في مصر، وأطلق المسؤولون الإسرائيليون تصريحات، عبرت عن تخوفهم من التغيير الحاصل في مصر؛ نظرا لأنهم يعتبرون مصر الضامن لاتفاقيات "كامب ديفيد"، التي أفضت إلى تحييد دور مصر وأخرجتها من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي. كما يعتبرون أن قدوم الإسلاميين إلى حكم مصر، سيعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام 1978، ويدخل مصر من جديد في الصراع مع إسرائيل؛ الأمر الذي يعني تغيير الواقع السياسي والاستراتيجي في المنطقة. ويكشف واقع الحال أن التخوف الإسرائيلي مصدره هو إمكان تغير الوضع على الحدود المصرية مع إسرائيل، والتخوف من أن تنتقل الأسلحة عبر المناطق الحدودية إلى قطاع غزة؛ لذلك طالب بعض الإسرائيليين بإعادة احتلال الشريط الحدودي مع غزة. كما تتخوف إسرائيل من احتمال أن تصبح مصر "جمهورية إسلامية"، على حدّ زعمهم، متصورين أن الإسلاميين سيحققون في الانتخابات الحرة الأولى في مصر غالبية ساحقة، الأمر سيفضي إلى إلغاء اتفاقيات السلام مع إسرائيل، وسيبعد مصر عن الولايات المتحدة والغرب، ويقتربها من حركة "حماس".
غير أن توقيت تراجع جولدستون له دلالاته في ظل المتغيرات التي تحملها الثورات العربية، حيث تتخوف إسرائيل كثيرا من نتائجها ومن النظم الجديدة التي يفرزها، إلى جانب أنه جاء في أعقاب قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإحالة تقرير جولدستون على مجلس الأمن للنظر فيه واتخاذ الإجراء المناسب في شأنه، ويتضمن ذلك إمكانية إحالة مقترفي الجرائم الإسرائيليين خلال الحرب على غزة على المحكمة الجنائية الدولية، خاصة أن تقرير جولدستون شكّل إلى جانب الفتوى القانونية الصادرة عن محكمة لاهاي الدولية مرتكزين رئيسيين لنشاط العديد من القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني العالمية؛ للعمل على زيادة الضغوطات الدولية على إسرائيل وتصعيد حملة التضامن الشعبي مع القضية الفلسطينية.
غير أن إسرائيل يمكن أن تستغل الظروف الحالية كي تشن عدوانا جديدا على المدنيين في قطاع غزة، خصوصا في ظل التصعيد الحربي الإسرائيلي الأخير، ويعتبر بعض المحللين السياسيين أن تراجع جولدستون هو بمثابة التبرير السياسي لدموية المجازر التي ارتكبت في قطاع غزة في أيامنا هذه، ويعطيها غطاء مباشرا لعدوان جديد، ويطلق العنان لارتكاب المزيد من المجازر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي