رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الاستحقاقات الاجتماعية على التربية

في مقال الأسبوع الماضي تناولت الدور الذي تلعبه التربية في إحداث التغيير الاجتماعي, على افتراض أن التربية سبّاقة لإحداث التغيير في مجتمعها، وهذا هو الوضع الطبيعي، لكن واقع حال بعض المجتمعات خلاف هذا, حيث نجد التربية متخلفة عن مسايرة التغيرات الاجتماعية، ولو أخذنا على سبيل المثال التغيرات على الصعيد التقني، الثقافي، السياسي, والاقتصادي، نجد التربية لا تساير هذه التغيرات, بل مثلها مثل شخص كسول يجرجر رجليه ويمشي ببطء, في حين أن المجتمع يسير بسرعة فائقة ويشهد تغيرات هائلة.
المتأمل فيما تشهده المنطقة العربية يتساءل, ويحق له ذلك: هل التربية الرسمية مهيأة في فلسفتها, وآلياتها, وأهدافها، وكوادرها من إدارة, ومعلمين، ومناهجها؛ لمسايرة هذه التغيرات, بل احتضانها والعناية بها وتوجيهها بالشكل الذي يخدم الوطن والمجتمع في حاضره ومستقبله، أم أنها عاجزة عن القيام بهذا الدور أو الواجب.
المنطق والمصلحة يؤكدان ضرورة تولي المنظومة التربوية هذه المهمة, وعدم البقاء على هامش الطريق تتفرج وتجتر ماضيها دون وعي بما يدور في المحيط الاجتماعي الداخلي، أو المحيط الخارجي القريب، أو البعيد جغرافياً أو ثقافياً أو حضارياً. إذا سلمنا بحقيقة الدور الريادي للتربية، حتى إن جاء متأخراً، وبعد حدوث التغيرات الاجتماعية, فلا بد أن نسأل عن أهداف الدور المرتقب، هل الأهداف تتمثل في: تغيير المعرفة أم الاتجاهات والميول، أم طريقة التفكير، أم تعديل السلوكين العام والخاص؟ لا أعتقد أن اثنين يختلفان على هذه الأمور, فالمعرفة متجددة, ولا بد للناشئة من الإلمام بكل جديد حتى يمكنهم أن يعيشوا معرفياً مع عصرهم الذي يعيشون فيه، أما الأهداف ذات العلاقة بالاتجاهات فأمر مسلم به إذا أراد المجتمع تقوية لحمته والمحافظة على تماسكه ومتانة علاقاته.
أما الميول, خاصة ما لها علاقة بالمهنة والأعمال والهوايات، فالأمر لا شك في قيمته، خاصة في مجتمعات تعاني البطالة، في حين أن مئات الآلاف, بل الملايين من مواقع العمل، يشغلها أجانب قدموا للوطن وأمسكوا بهذه الأعمال, إما لتوافر مهارات لديهم لا تتوافر لدى أبناء المجتمع, وإما لأن أبناء المجتمع لا تتوافر لديهم الميول والرغبة لممارسة مثل هذه المهن والأعمال. دور التربية الرسمية يتأكد من خلال إعادة النظر في المناهج حتى تكون أكثر قرباً من الواقع بدلاً من اقتصارها على الجانب النظري الذي أفقد الكثير من المجتمعات قدرتها وفاعليتها في تلبية احتياجات سوق العمل. الجانب التطبيقي في المناهج يسهم في تغيير السلوك وتعديله بما يجعله أكثر اتساقا وحرصاً على خدمة المجتمع وفق مفاهيم ونظم متجددة تتكيف مع التغيرات التي تطرأ على الصعيد الداخلي أو الخارجي. المناهج الرسمية لا بد لها أن تكون أكثر قرباً لحياة الناس بدلاً من أن تركز على جوانب نظرية بحتة بعيدة كل البعد عن حياة الناس وهمومهم وواقعهم الذي يحسون به ويلمسونه في كل لحظة من لحظات اليوم.
التربية بتخطي دورها حشو العقول بالمعارف التي تحويها المناهج إلى إكساب الأجيال آليات التفكير البعيدة عن تفريخ الإمعات الذين لا يجيدون سوى تكرار ما يسمعونه أو يقرأونه في الكتب والمناهج الدراسية. المناهج من خلال أسلوب الإيحاء، وليس بالضرورة التوجيه المباشر، قادرة على خلق أجيال تفكر بالصورة التي تبدع من خلالها بدلاً من إنتاج الصور الكربونية.
التربية بثوبها الجديد, الذي كما قلنا يستحدث بعد التغيرات الاجتماعية, يمكنها غرس ثقة الفرد بذاته، وتبصيره بدوره في المجتمع الذي لا غنى عنه, لأن نجاح المجتمع في تحقيق أهدافه مرهون بنجاح التربية في إعداد وتهيئة كل فرد دون استثناء لأحد. حتى يقوم الفرد بدوره, بل بواجبه تجاه مجتمعه لا بد من إكسابه خاصية التفكير الحر والمستقل الذي يمكنه من تقديم رأيه أو فكرته أو مشروعه دونما وجل من سلطة مادية أو معنوية على شكل ثقافة أو عادات أو تقاليد تحارب كل جديد وتجرم صاحبه, وتحكم عليه بالفسوق والعصيان لمجرد اختلافه عن المألوف حتى إن كان المألوف معوقاً، وليس له أساس شرعي أو سياسي أو قيمي.
التفكير بصورة مختلفة ليس بالضرورة أمرا سيئا، ويجب ألا يخاف المجتمع من صاحبه, بل إن المخيف والمضر في الوقت ذاته التفكير ضمن مفهوم القطيع الذي يسلب الفرد استقلاليته في التفكير، ويحرم المجتمع من رؤى وأفكار ومنتجات عقلية يكون لها دور بارز في بناء المجتمع وتقدمه. بقي أن نقول إن التربية عليها استحقاقات ضخمة تجاه مجتمعها، ولا يمكنها تحقيق هذه الاستحقاقات ما لم يكن لديها الاستعداد والقدرة لفعل ذلك, خاصة في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتراكم فيه التغيرات المذهلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي