ماذا يجب أن نغير؟

يمر العالم أجمعه، والعالم العربي على وجه الخصوص، بمرحلة مهمة تعيد تشكيل أنظمته الاقتصادية، مما يتطلب الانتباه والتدقيق لهذه المرحلة لأجل التعامل معها بحذر؛ لأن مراحل التغيير في التفكير الاقتصادي تتيح لدول إما القفز على مسار النمو والازدهار أو الانزلاق إلى مسار الهاوية والتراجع الاقتصادي، كما أنه يتيح لدول أن تتخذ لها مكانا مرموقا في العلاقات الاقتصادية الدولية أو أن تكون على هامشها. وإذا كان هناك من كلمة حظيت بالانتعاش والاستخدام بشكل كبير، فهي كلمة التغيير التي تطرح اليوم بشكل أكثر من أي وقت مضى، سواء على وسائل الإعلام المرئي، أو على مواقع الإنترنت، حيث يدلل مؤشر جوجل لاتجاهات الإنترنت على أن استخدام هذه الكلمة قفز بشكل كبير منذ كانون الثاني (يناير) من عام 2011، وبالتحديد في الدول العربية. لكن لماذا أصبح هناك رواج لمفهوم التغيير، وأي نوع من التغيير يطمح إليه المواطن العربي؟ هل التغيير مجرد التغيير الشكلي في الأنظمة، أم أن هناك أبعادا أخرى لهذا التغيير؟
دعني أولا أشير إلى أن التغيير الذي يشهده العالم العربي، في أحد جوانبه، يشكل أحد مظاهر التغيير الاقتصادي الذي يشهده العالم، خصوصا بعد الأزمة المالية العالمية، التي مثلت أحد المفاصل التاريخية المهمة في طريقة التفكير الاقتصادي. فما شهدته بعض الدول العربية وما تشهده من أحداث مؤسفة حاليا هو امتداد للمشاكل الاقتصادية التي خلفتها الأزمة المالية العالمية على الدول، سواء المتقدمة منها أم النامية، والتي شكلت بيئة مناسبة لبروز هذه الأحداث. فقد شهدت الدول الأوروبية ومن ضمنها بريطانيا وفرنسا، إضافة إلى إسبانيا واليونان وإيرلندا، ضغوطا كبيرة نتيجة للسياسات التي اتبعتها للتكيف مع الأزمة المالية العالمية، وذلك من خلال الجهود التي بذلتها للحد من الإنفاق على قطاعات الرعاية الاجتماعية والتقاعد، وتحويل هذا الإنفاق إلى إنفاق معزز للنمو الاقتصادي، من خلال التركيز على الإنفاق الاستثماري والحد من الإنفاق الجاري. وما ساعد هذه الدول في تجاوز هذه المرحلة وإحداث التغيير المطلوب في اتجاهات السياسة الاقتصادية، وتجاوز المعارضة الكبيرة التي واجهتها، هو وجود البنية التشريعية والمؤسسية اللازمة لتمرير هذه الإصلاحات، ووجود الحيز المالي الذي مكن من إجراء التعديلات اللازمة.
هذا على العكس من الدول العربية، التي عانت منذ فترة طويلة من ضعف في هياكلها الاقتصادية، وارتفاع في معدلات البطالة، وفساد كبير وسوء لإدارة موارد الدولة، وضعف المؤسسات التشريعية والتنفيذية فيها؛ مما جعل هياكلها الاقتصادية والسياسية الهشة تنهار أمام الضغوط الكبيرة التي واجهتها نتيجة للأزمة المالية العالمية. هنا يبرز أهمية التركيز على بناء المؤسسات التي تسهم بشكل كبير في صياغة القرارات الاقتصادية الرشيدة، وقيادة عملية التغيير، وتعزز مفهوم التنمية المستدامة ومشاركة الفرد فيها. وعندما أشير هنا إلى المؤسسات، فإنني أقصد بذلك جميع أجهزة الدولة سواء أجهزة وضع السياسات، والأجهزة التشريعية، أو الأجهزة الأمنية، حيث يكون محورها وهدفها الأساسي بناء مجتمع وأفراد قادرين على خلق تنمية اقتصادية حقيقية. المشكلة التي تواجه الدول العربية هي في الضعف الكبير في أجهزتها الحكومية التي لا تشكل بيئة مناسبة مؤسسية ومنتدى تتلاقى فيه الأفكار لوضع قرارات اقتصادية تسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ومن أهم متطلبات التغيير في الأجهزة الحكومية وتعزيز مستويات الأداء فيها، أن يكون هناك تغيير موازٍ على مستوى الأفراد وبالتحديد من حيث نظرتهم إلى موقعهم ودورهم في إطار عملية التنمية. فواجب التغيير لا يقتصر على الأنظمة فقط، بل ويشمل الأفراد الذين يشكلون محور التنمية في كل مجتمع متقدم، فالمواطن الفرد يسهم في التغيير من خلال تغيير نظرته إلى موقعه في هذا المجتمع من متلقٍ للعوائد والمنافع الاقتصادية إلى منتج لها. المواطن المنتج يسهم في تعزيز كفاءة استخدام الموارد من خلال حسن توظيفها وحسن استخدامها سواء كان ذلك في عمله، من خلال العمل بشكل جاد، أو من خلال استخدامه للمرافق العامة، أو من خلال أداء دوره وواجبه في خلق فرص حقيقية لأبناء جيله من خلال الإنتاج الإبداعي والمعرفي. وفي هذا الإطار، أشير إلى أن ما تكرم به خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - لأبناء هذا الشعب الكريم من قرارات لم تصب في الجانب المادي فقط، لكنها كانت هدفا لتعزيز الوحدة والتلاحم بين مختلف أطياف المجتمع.
أحد الجوانب المهمة للتغيير في التفكير الاقتصادي هو إعادة صياغة لدور الدولة في النشاط الاقتصادي، حيث ساد خلال الثلاثين عاما الماضية مفهوم تحجيم دورها، بالاعتماد على آليات السوق في توزيع الموارد والعوائد على عناصر الإنتاج المختلفة. التاريخ أثبت أن هذه النظرة قاصرة، وأن هناك الكثير مما يجب على الدولة أن تقوم به لتصحيح المسار الاقتصادي سواء على المدى القصير أو على المدى المتوسط. التغيير المطلوب عمله حاليا في المملكة يتمثل في إعادة صياغة لدور الدولة في النشاط الاقتصادي، لكي نحدد ما يجب على الدولة أن تقوم به، وما يجب أن تتركه للقطاع الخاص. نحتاج إلى أن نحدد ما السلع العامة التي يجب أن تركز الدولة على إنتاجها، وما السلع الخاصة، التي يمكن أن يضطلع القطاع الخاص بها. نحتاج إلى أن نحدد دور واضح للدولة في إصلاح الأسواق بناء على مبادئ محددة تسهم في توزيع الموارد بالشكل الصحيح، دون أن يكون ذلك لصالح طرف على حساب أطراف أخرى من المجتمع، وسوقا العمل والأراضي مثالان واضحان على ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي