رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


المصالحة الفلسطينية تجد ضالتها في زمن الثورات العربية

رياح التغيير العربية، التي بدأتها الثورة التونسية وأعطتها زخماً كبيراً الثورة المصرية، امتدت إلى ليبيا واليمن والبحرين والمغرب وإلى معظم البلدان العربية، ووصلت إلى الساحة الفلسطينية لتعلن أن الوقت قد حان لإنهاء الخلافات الفلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني "يريد إنهاء الانقسام"، بوصفه مقدمة ضرورية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على صدور الفلسطينيين منذ إنشاء الكيان الصهيوني. وعبّر الحراك الشبابي والشعبي الفلسطيني، الذي شهدته ـــ أخيرا ـــ شوارع غزة ورام الله وسواهما من المدن والبلدات الفلسطينية، عن تطلع الفلسطينيين للخلاص من الوضع الشاذ والمنهار، الذي أسهمت فيه القيادات السياسية الفلسطينية في سياق الصراع على السلطة بين كل من حركتي "فتح" و"حماس" وسواهما.
ويبدو أن الخلافات الفلسطينية وجدت أخيراً ضالتها في زمن الثورات العربية، وبدأت تشق طريقها إلى الحلحلة، وبناء القاعدة الوطنية الضرورية للوقوف في وجه الاحتلال الإسرائيلي، بالرغم من محاولات بعض القيادات الفلسطينية الحالية المراوغة والمزايدة على مطالب الحراك الشعبي الفلسطيني، بدلاً من أن تعمل على تحويلها إلى حيّز الواقع، وتنهي حالة الانقسام الفلسطيني، التي أضرّت كثيراً ـــ وما زالت تضرّ ـــ بالقضية الفلسطينية، واستفاد منها العدو الإسرائيلي الذي لا يتوانى عن تسخير أي انقسام أو خلاف في الداخل الفلسطيني خدمة لمصلحته.

مبادرة عباس
ويمكن اعتبار إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس عن استعداده لزيارة قطاع غزّة لإجراء المصالحة مبادرة حُسن نيّة، لكنه لن يكون كفيلاً بإغلاق ملف إنهاء الانقسام، خاصة أنه أُرفقَ بشروط من غير المرجّح أن تحظى بالقبول لدى الطرف الآخر، أي حركة "حماس"، التي أظهرت من جهتها ما أرادته من الإعلان وأسقطت ما لم يعجبها. وحمل الإعلان الاستعداد لزيارة قطاع غزة، "ليس لإجراء حوار بل لتشكيل حكومة من التكنوقراط، تكون مهمتها إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، إضافة إلى انتخاب مجلس وطني فلسطيني جديد خاص بمنظمة التحرير". ويشكل ذلك فحوى المبادرة التي أطلقها عباس من رام الله. وجاء الرد من طرف حركة "حماس" في سياق محاولتها نسب المبادرة إلى نفسها، من جهة تصويرها وكأنها جاءت ردّاً على دعوة رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنيّة للرئيس محمود عبّاس للقائه في أي مكان لإنهاء الانقسام.. وعليه، أعلنت استعدادها لاستقبال أبو مازن في قطاع غزّة، لكنها لم تردّ على الشروط التي وضعها.
ربما تحمل مبادرة عباس عنوان "زيارة بلا حوار"، وهي تندرج في خانة المبادرة نفسها التي سبق لحركة "حماس" أن أعلنتها قبل بضعة أيام، لذلك هناك خوف من أن تكون هاتان المبادرتان للاستهلاك الداخلي، وذلك في سياق محاولة كل طرف الالتفاف حول مطلب "الشعب يريد إنهاء الانقسام"، حيث يسعى قادة كل من فتح وحماس إلى رمي الكرة في ملعب الآخر، وإظهار أن حركته مستعدة للسير في طريق تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني، لكنه ينتظر إشارة إيجابية من الطرف الآخر. ومع ذلك، يمكن القول إن مبادرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لزيارة غزة بهدف تشكيل حكومة فلسطينية تعدّ للانتخابات الفلسطينية، جاءت في سياق محاولة التقاط قادة السلطة الفلسطينية لمطالب الشارع الفلسطيني المتمحورة حول إنهاء الانقسام، خصوصاً أن قادة حركة حماس، التي رحبت بالزيارة، تحاول من جهتها التقاط المطالب الشعبية ذاتها والدعوة إلى المصالحة الفلسطينية.
ولا شك في أن مبادرة الرئيس الفلسطيني جاءت على خلفية ضغط الشارع الفلسطيني في داخل الضفة الغربية وقطاع غزة وخارجهما وامتصاص غضبه. والخشية هي أن تكون محاولة التفاف حول مطالبه المشروعة التي تتركز على إجراء حوار وطني شامل يجمع مختلف القوى الفلسطينية، يخرج بمهام تجسيد الوحدة والمصالحة وإعادة اللحمة والتماسك لمختلف أطياف الشعب الفلسطيني، وإعادة الاعتبار للقضية الوطنية، والتأكيد على ضرورة إشراك كل المكونات الاجتماعية والسياسية الفلسطينية في القرار الفلسطيني، والتوافق على حكومة وحدة وطنية مؤقتة تعمل على التحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية، والعمل على وقف الحملات الإعلامية بين حركتي فتح وحماس وتجسيد معاني الوحدة والمصالحة، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في المقاومة بكل أشكالها السلمية والمسلحة حتى زوال الاحتلال، وإعادة تفعيل دور منظمة التحرير، وجعلها تشكل جسداً جامعاً لكل الفلسطينيين، بوصفها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده.
ويَعُدُّ معظم الفلسطينيين أن مسألة إنهاء الانقسام الفلسطيني ليست مجرد شعارات تطرح، كما أنها ليست للمزايدة أو الدخول في لعبة تبادل رمي الكرة بين حركتي حماس وفتح ومن لفّ في فلكهما، لأن ذلك لن ينتج سوى مزيد من الانقسام الذي يزيد من المأساة والمعاناة التي يرزح تحت وطأتها جميع الفلسطينيين، سواء من هم داخل فلسطين أم خارجها في دول الشتات، ومن ثَمَّ فإن مسألة إنهاء الانقسام باتت من أولويات الشعب الفلسطيني، والمستفيد الوحيد منها هو الاحتلال الإسرائيلي؛ لأن الانقسام يعني تكريس الخلافات السلطوية والتسوية والمحاصصات التي طالت الأمور كافة. وقد حان الوقت الذي يجب على قيادتي "فتح" و"حماس" الارتقاء إلى مستوى المسؤولية، والعمل على الخلاص من هذا الملف الشائك، والالتفات إلى ممارسات إسرائيل وسلطاتها الاحتلالية والقمعية، التي تستغل حالة الانقسام كي تفرض ما تفرزه ممارسات احتلالها وتجعلها أمراً واقعاً على الأرض في كل الأراضي الفلسطينية، وذلك في سياق محاولاتها تثبيت احتلالها باستخدام الوسائل كافة، لذلك تعد مسألة إنهاء الانقسام قضية مصيرية للفلسطينيين كافة، وحان الوقت للتعامل معها بجدية ومسؤولية، وإخراجها من لعبة المزايدة بين الفصائل الفلسطينية وبالأخص بين سلطتي رام الله وغزة.

الحراك الشبابي
من الطبيعي أن يلتقط الشباب الفلسطيني، غير المنتمي للفصائل الفلسطينية، إرهاصات التغيير التي حملتها الثورات العربية ومطالباتها بالحرية والعدالة والكرامة والمشاركة السياسية، وأن يستلهموا معاني الثورتين التونسية والمصرية كي يوجهوا مطالب حراكهم نحو إنهاء الانقسام الفلسطيني الذي طال أمده وطاول كل شيء، لذلك ليس مصادفة أن تتفق المجموعات الشبابية في قطاع غزة، الممثلة في مجموعة "شباب 15 آذار (مارس)"، و"شباب التغيير"، و"شباب 5 حزيران (يونيو)"، على التحالف فيما بينها والقيام بفعاليات احتجاجية مشتركة تحت عنوان "الحراك الشعبي لإنهاء الانقسام والحفاظ على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وكرامته"، وذلك بالتنسيق مع المجموعات الشبابية في الضفة الغربية.
وتلقى الحراك الاحتجاجي المشترك، الذي بدأ في 15 آذار (مارس)، الدعم والتأييد من قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، ومن الشباب الفلسطيني المنتمي لمختلف الفصائل الفلسطينية، ومن قيادات فلسطينية معروفة تقارع العدو الإسرائيلي في سجونه، من أمثال مروان البرغوثي وأحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث دعا كل منهما من سجنه كل أبناء الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية المناضلة وكوادره وشبابه إلى المشاركة بفاعلية في الحراك الشبابي.
وكان لافتاً انضمام مجموعات من الشباب الذين ينتمون إلى طرفي الانقسام الفلسطيني الممثلين في حركتي فتح وحماس، الأمر الذي أرسل إشارة قوية إلى قيادات الحركتين بضرورة العمل بشكل جَدِّي لإنهاء حالة الانقسام على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والجغرافية، لكن هناك أسئلة تحوم حول قدرة ورغبة قيادات الحركتين في الاستجابة لمطالب الاحتجاج الفلسطيني، ذلك أن من صنع الانقسام لا يمكنه إنهاءه، إلا إذا تغيرت العقليات القديمة، وتغيرت معها التوجهات والأجندات لصالح المصلحة الفلسطينية العامة، ولصالح الترفع عن المصالح الفئوية والشخصية.
ويتطلع الفلسطينيون إلى رَصِّ الصف الوطني، وإعادة الوحدة إليه، وتمتينه بغية الوقوف في وجه المشروع الصهيوني الذي يعمل باستمرار على قضم الأرض الفلسطينية وطرد إنسانها ومسخ هويته. وينظرون إلى إنهاء الانقسام والمصالحة الفلسطينية بوصفه الملف الذي يتقدم سائر الملفات الأخرى، فهو بمنزلة الطريق نحو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس وطنية جامعة، لا تستثني فصيلاً أو جهة أو حزباً لا يزال خارجها، ونحو الإعداد للانتخابات إعدادا محكماً، يحول دون التزييف أو التزوير أو التلاعب مع ضمان الالتزام بالنتائج وتنفيذها، ونحو إطلاق الحريات السياسية والإفراج عن المعتقلين السياسيين، والتأكيد على بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية وفق معايير مهنية لا فصائلية، وعدم تدخلها في الخلافات السياسية، والعمل على كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، وسوى ذلك من الملفات والاستحقاقات الفلسطينية الأخرى.

الدور التركي
لا شك في أن تركيا يمكنها أن تلعب دوراً مهماً في تحقيق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، نظراً لدورها السياسي الإقليمي المتنامي في عموم المنطقة العربية والشرق أوسطية وليس فقط في الساحة الفلسطينية، وللتضامن والدعم الإيجابي الذي قدمته النخبة السياسية التركية للشعب الفلسطيني في معاركه العادلة مع دولة الاحتلال والاستيطان، وخصوصاً في مسألة قضية رفع الحصار الظالم عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إلى جانب العلاقات المميزة التي يرتبط بها قادة حزب العدالة والتنمية التركي وقادة السلطة الفلسطينية وقادة حركة حماس أيضاً. ويبدو أن تركيا لم تتأخر في هذا المجال، حيث استقبلت منذ أيام قليلة ممثلين من حركتي حماس وفتح للإعداد لزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى قطاع غزة، الأمر الذي يؤكد جدية الدور التركي في تركيز الجهود على ملف المصالحة وإنهاء الانقسام.
غير أن المصالحة وإنهاء الانقسام لن يتحققا من دون الوصول إلى توافق شامل بين حركتي "فتح" و"حماس" والفصائل الأخرى، وإنهاء الخلافات السياسية القائمة بينهما، التي أضرت كثيراً بالمشروع الوطني الفلسطيني، بمعنى أن الحوار الفلسطيني هو مقدمة لوضع نهاية لحال الانقسام، بعد انسداد أفق التسوية والتفاوض مع إسرائيل، وانسداد أفق الممانعة والانتفاضة كذلك، نظراً لتأثير حال الانقسام الفلسطيني، وتعنّت إسرائيل التي تواصل نهج سياساتها العدوانية الرامية إلى فرض الأمر الواقع، من خلال الإمعان في سياسة الاستيطان والإجرام، والاستمرار في فرض الحصار على قطاع غزة.
ويمكن لتركيا أن تنهض بدور يفضي إلى إيجاد مخرج من حال انسداد الأفق على المستوى السياسي، والبحث عن استراتيجية نضالية تخلص الفصائل من حال التخبط والفرقة والانقسام، وبما يرقى إلى مستوى التحدّي والمسؤولية التاريخية. والطريق المفضي إلى ذلك هو الإجماع والعمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، تلقي على عاتقها مهام تحديد وتنفيذ نقاط التوافق. وإذا، نجحت تركيا في إيصال القوى الفلسطينية إلى التوافق على حكومة ائتلافية، تتولى الدعوة لانتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة، فإن الأهم منها هو التخلي عن المصالح الفئوية لهذا الفصيل أو ذاك، ومراجعة الثقافة السياسية السائدة التي تحصر الصراع مع إسرائيل في الوسائل العسكرية، فقط؛ لأن الصراع مع العدو ينبغي خوضه بمختلف الأشكال والوسائل، السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، والعمل الجاد على تحسين حياة الفلسطينيين، وتطوير العلاقات السياسية والمشاركة بين مختلف أوساط الشعب الفلسطيني.
ويبقى أنه في ظل الأوضاع الصعبة والدقيقة والخطيرة التي يعيشها الفلسطينيون، فإنه لا بديل عن التوافق وتوحيد الطاقات والإمكانيات، بغية تعزيز الصمود الفلسطيني وتنظيمه وفق ما تمليه المصلحة الوطنية، وأن تكون الحسابات السياسية على أساس دراسة المعطيات الدولية والإقليمية الراهنة وموازين القوى السائدة ومفاعيل الصراع مع العدو والتحديات الناجمة عنه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي