شكر الله سعيك
شكر الله سعيك, عبارة جميلة تحمل كل معاني التحضر والرقي والذوق والاحترام عبر بها شيخ مصري وقور أثناء الثورة المصرية ضد نظام حسني مبارك، وجاءت هذه العبارة رداً على أحد خطابات حسني مبارك التي عدد فيها إنجازاته وخدماته التي قدمها لوطنه في حالات السلم والحرب، والتي امتدت لعقود, كما ذكر. استوقفتني هذه العبارة عند إطلاقها لمضمونها وطريقة إطلاقها من قبل صاحبها, حيث إنها تقول وبشكل مؤدب كفى، والشعب يقدر جهودك، لكن من حق الشعب أن يعبر عن ذاته، ويرفع حقوقه التي امتهنت، وضاعت خلال عقود طغى فيها الجانب الأمني الاستبدادي على الحياة السياسية والمدنية في مصر.
لا أعرف المستوى العلمي والثقافي لذلك الرجل الوقور، كما أني لا أعرف المنصب والمهنة التي يمارسها, لأني سمعتها من خلال شاشة تلفزيون، لكن هذه العبارة تتردد على سمعي منذ سمعتها لأول مرة لجمالها وقيمتها في العلاقات بين الناس مهما كانت الخلافات التي قد توجد بينهم. الأحداث التي شهدتها وتشهدها الدول العربية، كما هو حادث في ليبيا, كشفت عن صور كثيرة من أساليب وطرق التعبير عن المشاعر والأفكار والرغبات والحقوق والنظرة للآخرين. الشعراء والفنانون والعلماء والمثقفون والسياسيون وعامة الناس، كل هؤلاء عبروا عن ذواتهم، لكن بطرق مختلفة بعضها يروق لنا ونتفق معه، والبعض ربما لا يروق لنا ونختلف معه بما يقارب 180 درجة.
إزاء هذه التباينات في طرق التعبير يحق لنا أن نتساءل عن أسباب وأسرار هذا التباين في التعبير، وهل هذا يعود إلى ثقافة المرء ومستواه المعرفي، أم أن الأمر يعود إلى عمر الفرد ونضجه وخبراته في الحياة بشكل عام، وفي الميدان السياسي بشكل خاص، أم أن الأمر مرده المركز الاجتماعي، والدور الذي يقوم به الفرد، أم أن هذه كلها لا قيمة لها, بل الأمر مرده الحالة النفسية والمشاعر التي يعيشها الفرد سواء كان بذاته فقط أم من خلال سياق اجتماعي، وظروف وطنية عامة كما هو في حالة الثورات التي شهدتها مصر وتونس وليبيا؟!
الشاعر بشار بن برد يقول:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
بيت الشعر هذا يعكس معنى عميقاً في واقع النفس الإنسانية التي تجعل الشاعر الكفيف يستشعر الجمال، ويعشق امرأة رغم أنه لم ير معشوقته, بل كل ما في الأمر سمع صوتها، ومن خلال نغمة الصوت ورقته، وربما نوع الكلمة التي سمعها هي التي أثارت فيه كوامن الحب والعشق حتى أطلق القصيدة المتضمنة لهذا البيت.
الخطاب الذي يبعث به الفرد سواء كان منطوقاً أو مكتوباً، وسواء كان نثراً أو شعراً، وسواء كان في مجال عام أو في مجال خاص، وسواء كان في ظروف عادية أم في ظروف استثنائية ومضطربة هو بمنزلة رسالة يطلقها الفرد نحو طرف آخر يعبر من خلالها عن مشاعره وأفكاره ومطالبه, لعل الطرف الآخر يستقبل هذه الرسالة بصدر رحب وعقل منفتح واستجابة تتناسب مع تطلعات من أطلقها, خاصة إذا كان مرسلها هو المجتمع أو من يمثل المجتمع.
توقفت كما غيري من مشاهدي الفضائيات عند خطاب معمر القذافي إزاء الثورة التي تجتاح ليبيا ضد نظامه، وتعلن رفضه له، سبب توقفي عند هذه الخطابات، وما تضمنته من ألفاظ وأوصاف يصعب تصور إطلاقها من فرد يزعم أنه قائد وطن، ويحكم الوطن، وشعبه منذ ما يزيد على أربعة عقود. تساءلت، وأنا أستمع لعبارات الجرذان وحبوب الهلوسة، لو كان لدي منصب أو لو كنت رئيساً لقدمت استقالتي ورميتها في وجوهكم أيها الجرذان، إضافة إلى عبارات الملاحقة الفردية من شارع إلى شارع، ومن دار إلى دار، ومن زنقة إلى زنقة، توقفت وتساءلت عن الأسباب التي دفعت القذافي ليخاطب شعبه بهذه الطريقة؟!
كل إناء بما فيه ينضح، مثل نكرره دائماً في حياتنا، ونشير به إلى أن يعبر به الفرد، ويظهر على منطوق كلامه دون البحث في النوايا، أو ما يمكن أن يسمى ما وراء الخطاب هو بمنزلة انعكاس لرؤية وأفكار ومشاعر من يطلق الخطاب. من سمع عبارات القذافي يدرك أن شخصاً يقع في مستوى المسؤولية الأولى في وطنه لا يكن أي تقدير أو احترام لشعبه, الذي صبر عليه طوال هذه العقود، كما أن هذه العبارات تعكس مستوى ثقافة من أطلقها، إذ لا يمكن تصور أن تصدر من شخص يمثل شعبه في المحافل الدولية، كما في الأمم المتحدة أو في اجتماعات جامعة الدول العربية.
قد يقول قائل إن الحالة النفسية نتيجة الثورة الشعبية هي سبب خروجه عن طوره واستخدام مثل هذه الألفاظ، ومع إدراكي دور الموقف الضاغط على خطاب الفرد وتصرفاته, إلا أن هذا لا يصل إلى درجة التقليل من قيمة ومكانة الشعب واحتقاره بالصورة التي سمعها وشاهدها كل العالم على الفضائيات، فإذا كان شعبه جرذانا من وجهة نظره فكيف يرضى لنفسه أن يحكم فئراناً؟! إن فقدان الحكمة والصواب يوقع صاحبه في المزالق، وصدق البارئ ـــ عز وجل: ''يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً''.