أمريكا والطريق لاحتلال ليبيا
تزايد الحديث في الآونة الأخيرة عن احتمالات التدخل العسكري في ليبيا، حيث يرى بعض المحللين السياسيين أن الولايات المتحدة في طريقها إلى اتخاذ حجة مساعدة الشعب الليبي ذريعة كي تحتل ليبيا وتبسط سيطرتها على الوضع فيها، خاصة أن الوضع الليبي يتجه نحو مزيد من التعقيد والتأزيم، حيث تشن كتائب القذافي ومرتزقته حرباً ضد الثوار في أكثر من منطقة في شرق ليبيا وغربها، مستخدمة كل أنواع الأسلحة في شن هجماتها الجوية والبرية والبحرية، وتتبع فيها سياسة الأرض المحروقة والقصف العشوائي المدمر، الأمر الذي يفضي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا الليبيين من المدنيين والعسكريين، ويهدد بكارثة إنسانية.
ويبدو أن العقيد لا يهمه مصير ليبيا ولا أرواح أبناء الشعب الليبي بقدر ما يهمه استمراره في حكمه مهما كانت الظروف، ولا يأبه باحتمالات التدخّل العسكري الأجنبي المباشر، في ظل عدم التحرّك الجاد والفاعل من طرف البلدان العربية للمساهمة في دعم الشعب الليبي وثورته، وبما يفضي إلى إسقاط حكم القذافي، ويضمن وحدة ليبيا أرضاً وشعباً، ويسهم في السير نحو نظام ديمقراطي جديد.
احتمال التدخل
لا شك في أن احتمالات وفرص التدخل العسكري في ليبيا باتت واردة، خصوصاً بعد أن اتخذت الجامعة العربية قراراً غير مسبوق، مع أنها رمت الكرة في ملعب مجلس الأمن الدولي، وطلبت منه اتخاذ الإجراءات اللازمة لفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، وبالتالي تنصلت من القيام بدورها المطلوب لمساعدة الشعب الليبي، واكتفت بفتح الباب أمام التدخل العسكري الأجنبي، وهو أمر تعتبره قوى اليمين المحافظ في الولايات المتحدة مطلوبا، لكنه غير كاف، إذ تريد أن تذهب إلى أبعد من ذلك، خاصة أنها تمثل مصالح شركات النفط والغاز والأسلحة وسواها من الشركات والقوى التي تعتاش على الحروب والأزمات في العالم، وبعضها يريد الحرب لمجرد الحرب، ولا يهمه إن رحل القذافي وانتهى حكمه أم لا. وربما تفضل استمرار القذافي في حكمه كي تستمر الحرب لأطول فترة ممكنة، وتجد الذرائع المناسبة للدفع باتجاه التدخل العسكري المباشر.
ويعرف العالم تماماً ممارسات تجار الحروب من أصحاب المصالح والمطامح النفطية، الذين لا يتورعون عن توريط الدول في خوض الحروب وشنها من أجل مختلف مصادر الطاقة من نفط وغاز وسواها، ويدفعون حكوماتهم إلى التدخل العسكري واحتلال الدول، مثلما جرى في العراق وسواه، ويعتبرون أن مصالحهم تتحقق بشكل أفضل من خلال حرب، تفضي إلى السيطرة الكاملة على ليبيا واحتلالها.
ولا شك في أن قصف طائرات القذافي بعض المنشآت النفطية، في معظم المناطق التي يوجد فيها الثوار الليبيون، أثار مخاوف الشركات النفطية الغربية، وزاد من تلك المخاوف التهديد الذي وجهه القذافي وكشف فيه عن نيته طرد شركات النفط الأمريكية والأوروبية من سوق الطاقة الليبية، واستدعاء شركات روسية وصينية وهندية لتحل محلها، الأمر الذي قد تعتبره هذه الشركات النفطية مبرراً منطقياً لحث الإدارة الأميركية لشن هجوم عسكري على ليبيا، خصوصاً في حال صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يقضي بفرض حظر جوي على ليبيا والقيام بإجراءات ممهدة لذلك، من قصف للدفات الجوية الليبية أو ضرب مقار القيادة والتوجيه والتحكم وسواها.
ويزداد القلق من تحول احتمال التدخل العسكري في ليبيا إلى حيّز الواقع من خلال تحرّك البوارج الحربية الأمريكية، الذي بدأ بالفعل، في البحر المتوسط في اتجاه السواحل الليبية، إضافة إلى تحرك القطع البحرية الحربية لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وذلك على الرغم من أن المتحدث باسم البنتاجون، الكولونيل ديفيد لابان، أرجع تحرك البوارج الأمريكية إلى وجود ''مخططين يضعون خطط طوارئ مختلفة''، و''كي نتمكن من توفير تلك المرونة عندما تتخذ قرارات.'' وأن المرحلة هي ''مرحلة التخطيط والإعداد تحسباً لأوامر قد تطلب منا أداء أي نوع من المهام سواء كانت إنسانية أو غيرها''. وهناك من يربط بين تعيين الجنرال ''كراتر هام'' قائداً للقيادة العسكرية في إفريقيا (أفريكوم) بدلاً من الجنرال ''ويليام وارد''، وبين ما يجري في ليبيا، وعلاقته بإمكانية القيام بتدخل عسكري أو فرض حظر جوي على ليبيا، حيث اعتبر الجنرال هام أنّ ''المجموعة الدولية قررت التحرك من خلال فرض حظر جوي على ليبيا، ''أفريكوم'' ستلعب دوراً مهما في التخطيط والتنفيذ في هذه المهمة''.
غير أن احتمال التدخل العسكري الأمريكي ليس كبيراً، في المرحلة الراهنة على الأقل، حيث تصدر مواقف متناقضة عن ساسة الولايات المتحدة الأمريكية ومراكز صنع القرار فيها، فأصوات عديدة في الإدارة الأمريكية لا تريد التورط في حرب جديدة، والرئيس باراك أوباما انتخب كي ينهي الحروب لا كي يخوض حرباً جديدة، خاصة أن الولايات المتحدة ما زالت تعاني تداعيات حربين فاشلتين في كل من العراق وأفغانستان، ومن تكلفتهما الباهضة.
وتتحفظ الأوساط العسكرية والاستخباراتية الأمريكية حيال أية خطوات أو إجراءات من شأنها أن تنطوي على تدخل عسكري مباشر، إذ لا يؤيد روبرت جيتس، وزير الدفاع الأميركي، إرسال قوات أو أي تدخل عسكري في ليبيا، في حين أن عدداً من المسؤولين في أجهزة الاستخبارات يحذرون من قدرة القذافي على قمع الثورة الليبية في ظل غياب أي تدخل جذري وفاعل لإسقاط النظام الليبي.
تباين المواقف
يشوب الموقف الرسمي للإدارة الأمريكية التناقض والتردد حيال الوضع في ليبيا وموقفها منه، حيث تريد عزل القذافي والتسريع بخروجه من السلطة، وطالب الرئيس الأمريكي باراك أوباما القذافي بالرحيل فوراً، وحمّل حكومات العالم مسؤولية منع وقوع مجزرة في ليبيا، تماثل المجزرة التي حدثت في رواندا أو البوسنة. وهناك من المراقبين من يرى أن الرئيس أوباما، الذي تراجعت شعبيته بشكل كبير خلال العامين الماضيين، قد يقدم على خطوة التدخل العسكري كي يجعل الأمريكيين يؤيدون بقاءه في الحكم لولاية ثانية.
وتسعى الإدارة الأمريكية إلى التنسيق مع ممثلي المجلس الوطني الانتقالي الليبي، حيث التقت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون ممثلين عن الثوار الليبيين في باريس، وذلك بعد لقائها مع سفير ليبيا في واشنطن عبد السلام العجيلي, الذي انشق عن نظام القذافي، وفي إطار التنسيق مع الثوار وليس الاعتراف بهم. إضافة إلى تهديد الإدارة الأمريكية بملاحقة أعوان القذافي وتقديمهم لمحاكم جرائم الحرب الدولية. وهناك في الإدارة الأمريكية من يتساءل عن نجاعة الخطوات التي اتخذتها بعد أن مالت الكفة العسكرية لمصلحة القذافي إثر تراجع الثوار من رأس لانوف وخروجهم من الزاوية.
غير أن تصريحات مدير الاستخبارات الأمريكية، جيمس كلابر، تناقض هذه الخطوات، الذي قدم سيناريو عن إمكانية هزيمة الثوار، وعن إمكانية انقسام البلاد الى نصفين، يسيطر القذافي على طرابلس والمناطق المحيطة بها، فيما يسيطر الثوار على مناطق الشرق ومركزها بنغازي. وأحرجت تصريحاته الإدارة الأمريكية التي حاولت التخفيف من أثرها، والقول إنه كان ينظر إلى الأمر من زاوية ضيقة. وهناك في الولايات المتحدة من يعتبر أن المواقف المتضاربة لواشنطن تشير إلى الموقف البراجماتي للرئيس أوباما، الذي ينهض على سياسة ضبط المواقف، وعلى ضرورة التعامل مع وضع كل بلد عربي على حدة.
أما المواقف الأوروبية فهي بدورها متباينة، حيث أعلنت بعض الدول الأوروبية عن قطيعة لا عودة عنها مع حكم القذافي، لكن هناك تباينا واضحا بين موقف فرنسا وبريطانيا وموقف ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، حيث يصر بعضها على ضرورة الحصول على تغطية شرعية دولية لأي عمل عسكري.
ويبدو أن الرئيس الفرنسي أراد أن يستبق مواقف الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروربي في المسألة الليبية، فاستقبل مبعوثين من ''المجلس الوطني الانتقالي'' للثوار الليبيين، واعترف بالمجلس كممثِّل شرعيَّ ووحيد لليبيا. وتتمحور خلفيات القرار الفرنسي على قيام فرنسا بدور سباق في الموضوع الليبي، بعد أن كان متأخراً حيال الثورتين التونسية والمصرية، لذلك ستستغل فرنسا اجتماع دول الثماني في باريس من أجل إقناع قادتها بضرورة اتخاذ خطوات عملية ضد نظام القذافي، وأن كل الشروط باتت متوافرة لفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا.
وتنشغل أوساط سياسية عديدة في العالم باحتمال التدخل العسكري في ليبيا، حيث تتعالى بعص الأصوات الرافضة بشدة التدخل العسكري في ليبيا، ومنهم من يرفض حتى فرض منطقة حظر جوي على ليبيا، حيث ترفض روسيا بشدة أي تدخل عسكري في ليبيا، لكنها لا تستبعد أن تقدم الإدارة الأمريكية على مثل هذه الخطوة. ولا يعول الساسة الروس كثيراً على مواقف وتصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما، التي تظهر رفضه للحرب ولمنطقها. وتأتي الزيارة التي قام بها جون بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، في الأسبوع الماضي إلى روسيا في سياق محاولة إقناع موسكو بضرورة التحرك لفرض منطقة حظر جوي على ليبيا. أما من جهة موقف الصين، فإنه ليس من المرجح أن تعارض الصين قراراً دولياً بفرض حظر جوي على ليبيا، وسبق لها أن أيدت القرار الدولي 1970 الذي يحظر بيع السلاح إلى ليبيا ويفرض عقوبات على نظام القذافي.
الحظر والتدخل
في كل الأحوال، ليس المطلوب تدخل عسكري، أمريكي أو أطلسي، في ليبيا، لأنه أمر لا يحقق إجماعاً ليبياً، ومرفوض من طرف أغلبية دول العالم وحكوماته، ويكلف الشعب الليبي كثيراً. وسيضرب مصالح دول عديدة في أسواق الطاقة في ليبيا وفي مجمل دول شمال إفريقيا، ويدخل في سياق لعبة مصالح الدول الكبرى، وتنظر إليه بريبة دول مثل روسيا والصين وغيرهما، وترفضه بوصفها سيناريو كارثي يجب العمل على تفاديه. وهناك معلومات عن تحرك بوارج حربية روسية باتجاه السواحل الليبية، وعلى متنها فرق من مشاة البحرية الروسية.
غير أنه وفي ظل تباين المواقف السياسية للدول الكبرى حيال الوضع الليبي، إلى جانب صراعاتها على المواقع والمصالح، فإنه من الصعب تحقيق إجماع دولي من المسألة الليبية. ويبدو أن الحاكم الليبي يستغل هذه التباينات من أجل الضغط على الثوار واستعادة بعض المبادرة الميدانية، خصوصا بفعل استخدام سلاح الجو، ولجوئه إلى استخدام كل أنواع الاسلحة الثقيلة.
ويشير واقع الحال إلى أن ثورة 17 شباط (فبراير) أعادت النقاش مجدداً حول علاقة الخارج بالداخل، إذ إنه لا يمكن التمييز بشكل واضح، على المستويين النظري والعملي، بين الحظر الجوي بشكل خاص والتدخل الخارجي بشكل عام، لكن الأهم هو ارتفاع الأصوات داخل أوساط الثوار تطالب بفرض الحظر الجوي، إنقاذاً للمدنيين والثوار من الطريقة الوحشية التي يتعامل بها القذافي معهم. فهذا الديكتاتور يخوض معركة حياة أو موت بالنسبة لحكمه وأبنائه وحاشيته، ولن يكترث بحجم الضحايا من شعبه أو عن مصير وطنه، ولن يهتمّ كذلك بالنداءات الدولية، فالذي لا يستوعب ولا يفهم ما يريده شعبه، لا يمكن له أن يسمع الأصوات العربية والدولية التي تطالبه بالرحيل حقناً للدماء.
وبصرف النظر عن التكهنات والتحركات الدولية، فإن الأوضاع على الأرض هي التي ستقرّر مصير ما يجري التحضير له دولياً، ذلك أن الكلمة الفصل للشعب الليبي، ولثورته التي ستنتصر في نهاية الأمر.