الذهنية التنموية في الاقتصاد الصناعي
كثيرة هي الآفاق التي تبلغها اقتصادات الدول عندما تربط عملتها بالدولار الأمريكي, وكثيرة في الوقت ذاته التحديات التي تواجهها. والموازنة بين الآفاق والتحديات في ظل تطورات الاقتصاد العالمي مهمة ليست باليسيرة نستقرئها من التجربة الكورية الجنوبية في بناء صناعاتها الثقيلة خلال 30 عاماً انتهت مطلع العقد الحالي.
شهدت كوريا الجنوبية خلال الفترة من 1967 إلى 1997 نموا اقتصاديا مستديما عم بنفعه معظم جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية الكورية الجنوبية. أسهم هذا النمو في نقل الاقتصاد الكوري الجنوبي من مصاف الاقتصادات الفقيرة إلى مصاف الاقتصادات الغنية، ووضعها في المرتبة الـ 11 في قائمة أكبر الاقتصادات العالمية الصناعية.
عزوت أسباب النمو الاقتصادي على مدى ثلاثة عقود إلى تشجيع الحكومة الكورية الجنوبية، القطاع الصناعي على الاستثمار في المجمعات الصناعية الضخمة. الهدف الرئيس من هذا التشجيع توظيف هذه المجمعات الصناعية الضخمة أداة تأثير رئيسة في الاقتصاد العالمي عن طريق إمداده باحتياجاته من الصناعات الثقيلة المختلفة ذات التكلفة القليلة.
انتهجت الشركات الصناعية الكورية الجنوبية سياسة تمويل صناعي تمكنها من توفير السيولة اللازمة للتوسع التدريجي في المنشآت الصناعية طيلة العقود الزمنية الثلاثة. نجحت سياسة التمويل هذه بالمفهوم الصناعي، لكنها أخفقت بالمفهوم المالي بسبب تواضع التنسيق مع سياسات البنك المركزي الكوري الجنوبي في دعم اليوان الكوري الجنوبي.
اعتمدت سياسة التمويل الصناعي على ثلاث استراتيجيات مختلفة. الاستراتيجية الأولى، التمويل من مصادر خارجية لتوفير سيولة تفوق الملاءة المالية الداخلية. والاستراتيجية الثانية، مؤشرات الاقتصاد الصناعي فقط دون الاقتصاد السياسي عند تحديد عوامل الطلب المستقبلية على الصناعات الكورية الجنوبية. والاستراتيجية الثالثة التمويل بالدولار الأمريكي عوضا عن اليوان الكوري الجنوبي للاستفادة من انخفاض سعر الفائدة على الدولار الأمريكي.
تجاهلت سياسة التمويل الصناعي العديد من الفرضيات المهمة التي من أهمها, أولا: أدبيات الاقتصاد السياسي واحتمالية تراجع قيمة الدولار الأمريكي مع مرور الزمن مقابل العملات العالمية الأخرى. وثانيا: انعكاسات هذا التراجع على أرباح الشركات الصناعية الكورية الجنوبية واحتمال تعرضها للإفلاس عند عجزها عن الوفاء بالتزاماتها المالية. هذا ما حصل بالفعل عندما تجاوز الاقتصاد الكوري الجنوبي أزمة الأسواق المالية الآسيوية بأقل قدر ممكن من الخسائر مقارنة بالاقتصادات الآسيوية الأخرى، حيث بدأت حملة تشكيك دولية في قدرة الشركات الصناعية الكورية الجنوبية على الوفاء بالتزاماتها تجاه المصارف الدولية. شجعت حملة التشكيك الاستثمارات الأجنبية على الخروج من الاقتصاد الكوري الجنوبي ولتزداد مع هذا الخروج المفاجئ الضغوط على اليوان الكوري الجنوبي وتتحول الشكوك المحسوسة إلى واقع ملموس.
ألقت أزمة الشركات الصناعية الكورية الجنوبية بظلالها على الأوساط المحلية والدولية وتدخلت الحكومة الكورية الجنوبية مع هذه التطورات المفاجئة لإخراج شركاتها الصناعية من أزمتها، فأعلنت نيتها تأميم الشركات الصناعية المتعثرة ودوليا. انخفض التصنيف الائتماني للشركات الصناعية الكورية الجنوبية فانعكست هذه التطورات المحلية والدولية بالسلب على السوق المالية الكورية الجنوبية فبدأت السوق المالية في التراجع التدريجي واليوان الكوري الجنوبي بالانخفاض المفاجئ مقابل الدولار الأمريكي.
تدخل البنك المركزي الكوري الجنوبي للحفاظ على مستوى ارتباط عملته الوطنية بالدولار الأمريكي فزاد معدل الفائدة على اليوان الكوري الجنوبي وبدأ في تنفيذ عمليات شراء واسعة لليوان الكوري الجنوبي على حساب احتياطية من العملات الأجنبية.
لم يسمح حجم احتياطي العملات الأجنبية للبنك المركزي الكوري الجنوبي بالاستمرار في عملية الحماية فأعلن نهاية 1997 فك الارتباط بالدولار الأمريكي وتعويم اليوان مقابل العملات العالمية. أسهم هذا الإعلان في انخفاض قيمة اليوان قرابة 60 في المائة وتضاعف الالتزامات المالية للشركات الصناعية الكورية الجنوبية وتراجع أرباحها، وتعرضت المجموعة منها للإفلاس والانهيار ولتنتهي معها رحلة التنمية المستدامة، وتبدأ رحلة تصحيح وإصلاح اقتصادي استمرت إلى اليوم، كان من آخر تطوراتها الملاحقات القانونية لعدد من الرؤساء التنفيذيين للشركات الصناعية الكورية الجنوبية.
تحمل تجربة التمويل الصناعي الكورية الجنوبية في طياتها العديد من الفوائد حول أهمية توثيق العلاقة بين السياسة الصناعية، والتنموية، من جهة، والتوجه السياسي الإقليمي من جهة أخرى. تحمل التجربة أيضا إيجابيات وسلبيات ربط العملة الوطنية بالدولار الأمريكي وانعكاسات هذا الربط على استدامة الاقتصاد الوطني في ظل تطورات الاقتصاد السياسي الوطني والإقليمي والدولي.
انتهج العديد من الدول سياسة ارتباط عملاتها الوطنية بالدولار الأمريكي لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو جميعها معا. وبنت هذه الدول بناء على هذا الارتباط سياساتها الاقتصادية وخططها التنموية بما يعود بالنفع والنمو والرخاء على شعوبها جيلا بعد جيل. كثيرة هي الآفاق التي تبلغها اقتصادات الدول عندما تربط عملتها بالدولار الأمريكي, وكثيرة في الوقت ذاته التحديات التي تواجهها. والموازنة بين الآفاق والتحديات في ظل تطورات الاقتصاد العالمي مهمة ليست باليسيرة.