الربح لنا والخسارة على غيرنا
مثلت الأزمة المالية الأخيرة اختبارا صعبا للمدرسة الاقتصادية التي سادت خلال الثلاثين سنة الأخيرة، خصوصا في فترة رئاسة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، حيث رسخ بشكل كبير لمفاهيم الحرية الاقتصادية، والحد من التدخل الحكومي، ومن حجم الحكومة. ماذا يعني ذلك؟ ضرائب منخفضة، وأفضلية لمنح الحوافز لقطاع الأعمال، في مقابل العمل على الحد من برامج الرعاية والدعم الاجتماعي التي تقدمها الحكومة بحجة أنها تسهم في زيادة حجم الحكومة. هذا المنهج الذي ساد خلال الفترة الماضية أدى إلى معاملة تفضيلية لكل ما يتعلق بقطاع الأعمال؛ ما أدى إلى إلغاء الكثير من التشريعات المنظمة للقطاع المالي. النتيجة، أزمة مالية هي الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة والعالم، دفعت بمن حارب التدخل الحكومي، إلى التدخل لإنقاذ القطاع المصرفي، وفي تناقض صريح مع المبادئ التي دعا إليها في السابق.
هنا تظهر معضلة كبيرة في التفكير، فمن هو الأحق بالانتشال، الغني أم الفقير، من يضارب بأمواله ويخاطر بها أملا في الثراء، أم من يرغب في استكمال حاجاته وحاجات أسرته الأساسية من غذاء وتعليم ومسكن؟ اضطراب وتناقض في طريقة التعامل مع طرفي المعادلة، قطاع الأعمال والمستثمرين من جهة، والأفراد من جهة أخرى. من يرى دعم قطاع الأعمال يستند إلى حقيقة أن هذا الدعم سيؤدي إلى إنعاش الاقتصاد وزيادة الوظائف، لكن إنعاش الاقتصاد قد يكون بتقديم الدعم المباشر للأفراد أيضا، ما سيسهم في زيادة الطلب والاستهلاك، مما سيؤدي إلى زيادة الوظائف أيضا.
جوزيف ستيجلتز الاقتصادي الأمريكي الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد يشخص هذه الحالة من التناقض في كتابه الأخير ''السقوط الحر''، حيث يصف استجابة الحكومة خلال الأزمة المالية الأخيرة بأنها كانت متحيزة بشكل كبير لقطاع الأعمال، ومتناقضة في الوقت نفسه مع مبدئها المتمثل في الحرية الاقتصادية المفرطة والحد من تدخل الحكومة. فعندما استعرت أزمة الرهن العقاري، لم تسارع الحكومة إلى مساعدة الأفراد على تخطي مشكلة عدم قدرتهم على سداد أقساط الرهن التي يذهب جزء كبير منها للبنوك على شكل فوائد، بينما سارعت إلى دعم المصارف بوضع برنامج لمعاجلة الديون المتعثرة أولا، وبرنامج ضخ أموال لزيادة رأسمال البنوك. بل إنه وعلى الرغم من مسؤولية هذه المصارف المباشرة عن الأزمة من خلال ممارساتها غير المهنية وغير الأخلاقية، وعلى الرغم من استفادتها من الدعم الحكومي خلال الأزمة، فقد استمرت في صرف مكافآت مجزية لمديريها التنفيذيين، وفي الوقت نفسه بقي الأفراد وحدهم يواجهون مشكلاتهم المالية.
هذه المشكلة تظهر في كل مجتمع تقريبا، بسبب وحيد هو علو صوت أصحاب قطاع الأعمال على الأفراد كما يشير الاقتصادي المعروف راهورام راجان في مقاله الأخير؛ لأنهم مجموعة صغيرة منظمة تستطيع رفع صوتها للحصول على ما تريده. خلال الأزمة المالية، كانت المصارف واللوبي الداعم لها في الولايات المتحدة يهددون بأن عدم دعمهم قد يؤدي إلى انهيار الاقتصاد برمته. صورة قاموا برسمها في رأس متخذ القرار جعلته يفكر كثيرا قبل أن يتخذ أي قرار. هنا تظهر معضلة كبيرة جدا، فالمستثمرون سواء البنوك أو الأفراد في الأسواق المالية تعلو أصواتهم عندما تكون هناك أزمة، فيطالبون الحكومة بأن تنتشلهم من هذه الأزمة. أما عندما يكون هناك انتعاش وتكون الأسواق في وضع جيد، فهم يريدون أن تكون الأرباح لهم وحدهم دون غيرهم. بمعنى آخر هم يريدون أن يختصوا وحدهم بالأرباح، وأن يسهم غيرهم - سواء الحكومة أو الأفراد الذين يتحملون هذا العبء فعليا - في الخسائر.
ولهذا الموضوع جانبان، الأول يتعلق بجانب العدالة، والآخر يتعلق بما يسمى في الاقتصاد الخطر الأخلاقي Moral Hazard، فمن جانب فإن دعم فئة من المجتمع لانتشالها من أزمة سوق مالية أو دعم البنوك الاستثمارية نتيجة خسائر كبيرة حققتها بسبب سياساتها الاستثمارية يخالف بشكل صريح وسافر مبدأ العدالة بين الناس، على أساس أن هؤلاء اتخذوا قرارهم الاستثماري بأنفسهم وهم مسؤولون عن نتائجه. ولو قامت الحكومة بدعهم فماذا عن دعم الأفراد الذين يتعثرون في سداد مستحقاتهم للبنوك؟ وماذا عن دعم مؤسسات القطاع الخاص التي تخسر نتيجة مشروع استثماري؟ وكيف سيؤثر ذلك في قرارات الاستثمار الحكومي الأخرى في البنى التحتية كبناء المدارس والمستشفيات التي تخدم شريحة واسعة من المجتمع؟ الجانب الآخر المتعلق بالخطر الأخلاقي يتضمن، أن معرفة المستثمرين بأن الحكومة ستنتشلهم في حالة وجود أزمة اقتصادية سيجعلهم يستثمرون في أصول ذات مخاطر عالية جدا؛ أملا في تحقيق أرباح عالية، وفي حالة الخسارة، فستغطيها الحكومة من خلال برامج مماثلة لما قامت به في السابق.
العلاقة بين قطاع الأعمال والحكومة علاقة ذات حساسية، خصوصا في الاقتصادات الحرة، وبسبب تنظيم قطاع الأعمال، خصوصا المستثمرين في القطاعات المالية، فإنهم يمارسون دائما ضغطا منظما على الحكومة لدعمهم على قاعدة أن الحكومة مسؤولة عن انهيارات الأسواق، وهو أمر غير صحيح. الحكومة مسؤولة عن حوكمة الأسواق المالية فقط، وليست مسؤولة عن قيمة المؤشر، والأسواق بطبيعتها قاسية وليس لديها قلب رحيم كالحكومة؛ لذلك فالمستثمرون يلجأون إلى الأسواق طلبا للربح، وللحكومة ذات القلب الرحيم التعويض عن الخسائر.
ملاحظة: المقال يعبر عن رأي كاتبه فقط.