ليبيا.. خيارات الحرب الأهلية والتقسيم والتدخل
مع استمرار تعقد الأوضاع في ليبيا، واشتداد المعارك ما بين الثوار الليبيين والمرتزقة والكتائب الأمنية الموالية للقذافي في مدن الزاوية ومصراتة ورأس لانوف والعديد من المدن والمناطق الليبية الأخرى، فإن أسئلة عديدة تطرح حول الاتجاه الذي سيأخذه مسار وتطور الأحداث في هذا البلد، حيث بدأ بعض المحللين السياسيين يتحدثون عن احتمالات نشوب حرب أهلية فيه، ويطرحون احتمالات عن تقسيم ليبيا إلى ثلاث مناطق أو دويلات.
التمسك بالسلطة
ويبدو أن دماء كثيرة ستسيل على الأرض الليبية، نظرا لإصرار العقيد القذافي على التمسك الشديد بالسلطة حتى آخر رمق فيه، إذ وبعد انقضاء ما يقرب أكثر من ثلاثة أسابيع على اندلاع الحراك الاحتجاجي الشبابي، وتحوله إلى ثورة شعبيّة، ما زال العقيد القذافي وأنصاره مصرين على المضي في نشر الفوضى والقتال حتى آخر ليبي وليبية، الأمر الذي يشي بأن عمليّة الخلاص من حكم القذافي ستكون باهظة الثمن، خصوصا وأن النظام الليبي، مدجج بمختلف أنواع الأسلحة، أما الثوار الليبيون فكان حراكهم الاحتجاجي سلميا في البداية، وكانوا عزلا، وتلقوا الرصاص بصدورهم، لكن مع تطور الأحداث تمكنوا من الحصول على أسلحة خفيفة ومتوسطة من مراكز شرطة، إضافة إلى أسلحة بعض الوحدات العسكرية التي انضمت إلى صفوفهم. ولم يتردد نظام القذافي من استخدام مختلف أنواع الأسلحة، البرية والبحرية والجوية، وقامت قواته بقصف عشوائي للمدن الليبية التي سيطر عليها الثوار؛ لذلك، فإن المعركة قد تطول، وتزداد تكلفتها البشرية يوما بعد آخر، خاصة وأن الثوار الليبيين ليس بمقدورهم حسم الأمور لصالحهم عسكريا بالسرعة المطلوبة للخلاص من حكم القذافي، وأن قوى المجتمع الدولي الفاعلة تعيش حالة من الازدواجية والإرباك والتردد في مواجهة ما يحدث في ليبيا، حيث اكتفت الولايات المتحدة بمطالبة القذافي بالرحيل، وقامت بإرسال قطعتين حربيتين إلى الشواطئ الليبيّة، إلى جانب تركيزها على فرض عقوبات على نظام القذافي، ولم يذهب الأوروبيون، المنقسمون على أنفسهم، إلى اتخاذ خطوات فاعلة للتعامل مع ما يجري في ليبيا، وهو ما دفع بعض المحللين والمراقبين إلى القول بأن الأزمة ستكون طويلة الأمد من الناحية العملية، وأنها قد تحمل مخاطر تقسيم ليبيا.
الحرب الأهلية
أكّدت الأحداث في ليبيا أن شخصية معمّر القذافي شديدة الكراهية في داخل ليبيا وفي خارجها أيضا، وأنه من الصعب العثور في ليبيا على أنصار مخلصين له، سوى حفنة من المقربين والمنتفعين والفاسدين الذي ينهبون أموال الشعب الليبيّ، ولا يهمهم مصير ليبيا، سواء قسمت إلى دويلات أم دخلت في أتون حرب أهلية طاحنة، فيما تشير الأحاديث والتصريحات التي يطلقها العقيد معمّر القذافي في إطلالاته التلفزيونية العديدة إلى أنه يعيش في كوكب آخر، وأنه غير متوازن، ويحاول الظهور وكأن الأخبار لم تصله بعد عن سقوط معظم المدن والبلدات والمناطق بأيدي المنتفضين ضد سلطته بعد مرور 42 عاما، إلى جانب تخلي العديد من ضباط وأفراد الجيش والقوى الأمنيّة عنه، وانضمام معظم السفراء والدبلوماسيين الليبيين في أغلب دول العالم إلى جانب الثورة الليبية.
ويبدو أن القذافي يكره أبناء شعبه، الذين وصفهم بالحثالة والجرذان والجراثيم واتهمهم بتعاطي الحبوب المهلوسة وتعاطي المخدرات، بل وركز في خطبه الأخيرة على اتهام تنظيم "القاعدة" بافتعال ما يحدث ضد حكمه، وهو اتهام يرقى إلى مصاف الوشاية، ويحمل تهديدا للدول الغربية بأن القادم من بعده يحمل سيطرة الإرهاب والأصولية المتشددة على ليبيا، ويشكّل خطرا على المنطقة وعلى أوروبا والولايات المتحدة وعلى الأمن العالمي كله، وأنه حامي حمى الغرب من خطر الإرهاب في ليبيا، ومن خطر الهجرة غير الشرعية. لكن القذافي يعي في قرارة نفسه أن عهده قد انتهى، وأن حاجز الخوف منه الذي بناه طيلة فترة حكمه قد كسره الشعب، وهو ما يفسر بقاءه في العاصمة الليبية طرابلس، بل وتحصنه في ثكنة باب العزيزية فيها، تاركا سائر المناطق الليبيّة عرضة للدمار والخراب والقتل الذي تنشره قوات المرتزقة والكتائب الأمنية التي يقودها أبناؤه والمقربون منه، والذين يحاولون فرض حالة تقسيميّة على ليبيا، إلى جانب نشر الرعب بين السكان المدنيين. وقد سبق وأن طرح ابنه سيف الإسلام القذافي، بعد اندلاع انتفاضة 17 كانون الثاني (يناير) خيار الاستسلام على المنتفضين ضد النظام، وإلا "فالنتيجة حرب أهلية وتقسيم ليبيا"، ثم عاد ليحذر من تحوّل ليبيا إلى "صومال المتوسط"، أمام مختلف وسائل الإعلام العربية والعالمية، وخيّر الشعب الليبي بين خيارين، إما "نحن أو الحرب الأهلية"، معتبرا "ليبيا غير مصر وتونس، ويمكن أن تتفكك كما قبل 60 عاما إلى ثلاث دول". وعليه، فإن سيف الإسلام لا يتقن سوى لغة أبيه التي تحتقر الشعب الليبي، ولا تكف عن تهديده بالتقسيم وبالحرب الأهلية، التي تعني سفك دماء مئات الألوف من الليبيين، حسبما توعدهم في أول حديث تلفزيوني له بعد اندلاع ثورة 17 كانون الثاني (يناير).
ويستند كل من القذافي وابنه سيف الإسلام في تهديداتهما بالحرب الأهلية والتقسيم إلى ظروف وتركيبة ليبيا الاجتماعية والتاريخية، وعلى إمكانية إحداث شرخ بين القبائل والمناطق الجهوية وتقسيمها، وبما يترك آثارا سلبية على الثورة الليبية، وتحويلها إلى صراع أهلي، من خلال التركيز على وجود انقسام بين الشرق والغرب، وبين بنغازي وطرابلس، والعودة بهما إلى ما قبل مرحلة الملك إدريس السنوسي، لكن الليبيين وضعوا تلك المرحلة الغابرة من الانقسام وراء ظهورهم، وتصرّ المجموعات المنتفضة على نظام العقيد القذافي على وحدة الشعب الليبي ووحدة ترابه ودماء شهدائه، وأنهم لن يرتاحوا ولن يتوقفوا عن الثورة ما لم تتخلص، أو تتحرر، طرابلس وسرت وسبها وسائر المدن والمناطق الليبية الأخرى من حكم القذافي ومن سطوة وسيطرة المافيات التابعة له. كما يستند نظام القذافي على العديد من الليبيين، أصحاب المنافع والامتيازات، وأغلبهم لن يتخلى بسهولة عما نابه من نظام القذافي؛ كونهم استفادوا منه كثيرا ودخلوا في لعبة مراكز القوى والمصالح، ويمتلكون، مع المنتفعين من حولهم من الأقرباء والأنصار، مصالح قوية سيدافعون عنها، وبالتالي سيدافعون عن حكم القذافي.
التدخل الدولي
في المقابل، ما يزال الثوار الليبيون يتصدون للأعمال الثأرية، التي تقوم بها قوى نظام القذافي، الذي تتجاوز شراسة استبداده كل المعايير، وهو ما يعطي تفسيرا لحالة الإنكار التي أبداها القذافي في ظهوره الإعلامي، وتزييفه للحقائق بالقول إن الشعب الليبي يحبه ومستعد للموت من أجله، فهذا السلوك اللاعقلاني واللامعقول يبديه هذا المستبد وكأنه لا يزال مستأثرا بليبيا وشعبها، وأن الجماهيرية العظمى هي نهاية التاريخ والحياة بالنسبة إليه. ويقابل غياب العقل والضمير لديه إصرار الثوار الليبيين على إنجاز ما بدأوه؛ لأنهم يعرفون تماما إذا توقفوا في منتصف الطريق فلن تقوم لهم قائمة، وسيكون مصيرهم القتل والتعذيب والتشريد والتجويع، وهي مفردات يعونها تماما، وذاقوا مرارتها طيلة أكثر من 40 عاما من حكم القذافي. لذلك يمكن القول إن ما يقوم به الثوار الليبيين فريد من نوعه، لأن الدكتاتور يتصرف وكأن من حقه تماما سحق جميع المعترضين والمحتجين على حكمه، وهو أمر يضع ثورة ليبيا في مواجهة وضع شديد الغرابة والقسوة.
من جهة أخرى، لا يزال قادة الثورة الليبية يرفضون أي تدخل عسكري أجنبي في بلادهم، ويصرون على أن المعركة هي معركتهم وحدهم ضد نظام القذافي، وقد أكد المجلس الوطني الليبي على ذلك أيضا، وحذر قادته من أن التدخل العسكري الأجنبي قد يدفع بالوضع إلى وجهة معاكسة تماما. وأقصى ما يطلبونه هو إقامة مظلة حماية فوق ليبيا تحول دون استخدام نظام القذافي الطائرات الحربية في قصف المدن التي يتواجد فيها الثوار الليبيون.
ويعد معظم الليبيين أن فرض حظر جوي على ليبيا هو من أجل حماية الشعب الليبي ورد العدوان عنه، من خلال استصدار قرار دولي لمجلس الأمن، وليس من خلال قرار أطلسي أو أمريكي. وقد سبق وأن اتخذ مجلس الأمن الدولي القرار 1970 بالإجماع ووجه المجتمع الدولي رسالة قوية لنظام القذافي؛ لذا فإن فرض الحظر الجوي هو إجراء يثبت التصميم الدولي للحيلولة دون تفرد النظام المتهاوي بارتكاب المزيد من الجرائم ضد الإنسانية في حق شعبه، ويمكن لمن لديه القدرة من أعضاء الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي المشاركة، أو حتى المبادرة في هذا الموضوع، لكن واقع الحال يشير إلى أن الدول التي تتوافر لديها القدرات اللوجستية والتقنية والعسكرية لفرض الحظر الجوي هي الولايات المتحدة، وفرنسا، إيطاليا، إسبانيا، بريطانيا. وهي دول تضع مصالحها، وخصوصا المصالح النفطية، في سلم أولوياتها، وتتحرك متى اقتضت مصالحها وأمنها القومي.
إشاعة الفوضى
من المهم أن تنكشف الأحداث في ليبيا عن انتصار الثورة، وأن تتجسد آفاق الحل في الاعتراف سياسيا وحقوقيا بالواقع المستجد، وأن تتكلل بالسعي نحو التعددية وتشييد الديموقراطية وإعطاء الجميع حقوق المواطنة الكاملة، على مختلف المستويات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وتعد أوساطا مختلفة من الليبيين أن حكم القذافي الذي بدأ منذ 42 عاما، أشاع الفوضى في وطنهم، حيث الجهاز السياسي الذي حكمهم مختلف عن سائر الأنظمة الحاكمة في مختلف أنحاء العالم، سواء الجمهورية منها أم الملكية، فالعقيد يترفع بغطرسة عن تسمية نفسه رئيسا أو صاحب سلطة، ويزعم أنه أعطى السلطة للشعب عن طريق "اللجان الثورية"، التي هي أشبه بمافيات تلتف حول شخص القذافي، وتسلك سلوك العصابات في مواجهة باقي أفراد الشعب، فيما تسود الفوضى كل مناحي ومفاصل الدولة وأجهزتها، وتخترق نسيج "الجماهيرية العظمى" الذي يتربع على عرشها "ملك ملوك إفريقيا"، الذي يستأثر بخيراتها، ويوزع ما يطيب له على من يقفون إلى جانبه، فيما لا يحظى معظم أفراد الشعب سوى بالقمع والخوف والإذلال.
وقد جاءت ثورة 17 من شباط (فبراير) كي تعلن بداية الخلاص الليبي من القمع والاستبداد وتبديد الثروة، والخلاص كذلك من حالة اللانظام والفوضى التي خبروها على مدى 42 عاما، وبات القوى الحية في ليبيا تتحدث عن أن ما كان محرما من قبل قد انكسر، وأن الشعب الليبي قادر على تجوز المحرمات واجتياز الخطوط الحمراء، وبالتالي فإن الأجدى هو أن يدرك القذافي وأتباعه ألا جدوى من الرهان على القتل والقمع ونشر الفوضى والرعب؛ لأن الثورة ستكسب الرهان في نهاية المطاف، وعليهم أن يتعظوا من إحدى الدلالات الكبرى المرتبطة بالثورة الليبية، التي بينت عدم قدرة المال على شراء وضمان الولاء السياسي فترة طويلة من الزمن، إذ على الرغم من سيطرة القذافي وأبنائه على ما يقارب 150 مليار دولار، فإن ذلك لم يستطع إنقاذ النظام الليبي من الثورة المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية، وبالتالي ينبغي الاستفادة من ما حصل مع النظامين التونسي والمصري حقنا لدماء الليبيين من أطفال وشباب ونساء وشيوخ.