الخطوة التالية إعادة التأهيل
تمر اقتصادات المنطقة العربية بمرحلة مهمة تتمثل في زيادة دور الدولة في النشاط الاقتصادي الناتج من زيادة الإنفاق الجاري على الإعانات والبرامج الاجتماعية. ولست ممن يرى مشكلة في زيادة دور الدولة في النشاط الاقتصادي، لكنني أرى أن هناك أهمية كبرى لتوجيه هذا الدور لتعزيز الكفاءة والإنتاجية والتوظف والنمو في الاقتصاد، مع تعزيز كفاءة هذه البرامج الاجتماعية وليس الحد منها. وما تمر به الاقتصادات العربية في الوقت الحالي سينجم عنه تأثيرات كبيرة على إمكانات النمو الاقتصادي، إما بالسلب أو بالإيجاب. فهذا التأثير سيكون بالإيجاب إذا كان هناك توجيه حكيم للإنفاق والسياسات الاقتصادية للمجالات المنتجة في الاقتصاد، بينما سيكون التأثير سلبا عندما تستهدف هذه البرامج المساواة أو التخفيف فقط من المشاعر السلبية للجماهير.
وفي ظل برامج الإصلاح الأخيرة التي أقرها خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - والتي تستهدف بشكل أساسي تعزيز مستوى معيشة المواطن، فإن العمل يجب ألا يقف عند هذا الحد. بل إن على المسؤولين العمل على استكمال العمل الذي بدأه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - من خلال وضع برنامج عمل للإصلاح في عدد من القطاعات الرئيسة التي تمثل محور التنمية في المملكة. هذا الإصلاح يجب أن يرتكز على الأهداف الرئيسة التالية: تعزيز مستوى المعيشة للمواطن من خلال توفير الخدمات والسلع بتكلفة مقبولة، توزيع المنافع بناءً على المساهمة في الإنتاج، توزيع التكلفة بناءً على القدرة على تحملها بهدف إعادة توزيع الدخل، أن يكون تقديم كل خدمة عامة مرتكزا على مبدأ الكفاءة. وهذا يتطلب أن يكون هناك إصلاح في القطاعات التالية، لتعكس هذه الأهداف:
أولا: قطاع الخدمة العامة: إعادة هيكلة الوظائف الحكومية، حيث يعاد توزيع الوظائف من القطاعات غير المنتجة إلى القطاعات المنتجة والتي تعاني نقصا كبيرا في الكوادر البشرية لديها. هذه القطاعات تشمل القطاعات الخدمية كالقطاعات الأمنية التي تباشر مهام ميدانية كالمرور والشرطة، والقطاعات الرقابية كالبلديات وحماية المستهلك، والقطاعات التي تقدم خدمات عامة للناس، كالقضاء وكتابات العدل، وهيئة التحقيق والادعاء العام، والقطاعات الصحية، وقطاعات الرقابة على تنفيذ القرارات والأوامر السامية، كالديوان الملكي وديوان رئاسة مجلس الوزراء.
ثانيا: قطاع العمل: إعادة هيكلة سوق العمل بشكل كامل، حيث يكون المواطن السعودي هو المحور الأساسي الذي ترتكز عليه قوى العرض والطلب في هذا السوق، لكي يمثل المرتكز الأساسي للإنتاجية في الاقتصاد الوطني. هذا لا يعني ألا يكون للعمالة الأجنبية دور فيه، لكنه الدور المكمل الذي يغطي فجوة الطلب التي لا يمكن أن يغطيها المواطن السعودي. وهذا يتطلب قوانين أكثر صرامة مما هي الآن للاستقدام من الخارج، لكن في الوقت نفسه أكثر مرونة للعمل في الداخل متى أصبح العامل الأجنبي داخل المملكة. هذا سيؤدي بدوره إلى أن يكون العامل الأجنبي على درجة متساوية إن لم تكن أقل مع المواطن داخل سوق العمل.
ثالثا: أسواق المنتجات والخدمات: عمل مراجعة شاملة لسياسات الأسواق والمنافسة في الأسواق لتكون قادرة على الحد من احتكار القلة للتجارة في الكثير من السلع الأساسية وتوفير القدر الكافي من المنافسة المطلوب لتوفير الخدمات والسلع بأسعار مقبولة. وهذا يتضمن مراجعة أسواق التجزئة بشكل خاص، ونظام الوكالات التجارية، ووضع تشريعات تسهم بشكل كبير في الحد من الأنشطة المعتمدة على الاتجار من خلال الريع Rent Seeking وليس من خلال الربح المعتمد على الكفاءة في تقديم الخدمة أو المنتج.
رابعا: قطاع الإسكان: يعد قطاع الإسكان ذا أولوية كبرى على برامج الإصلاح بالنسبة للمملكة، والسبب في ذلك يعود إلى انخفاض نسبة التملك للسكن في المملكة مقارنة بالدول الأخرى. هناك عمل جاد لإصلاح هذا القطاع في أكثر جوانبه، لكن الجانب المهم الذي يحتاج إلى إصلاح شامل يتعلق بآليات السوق والمنافسة فيما يتعلق بسوق الأراضي التي تعاني احتكارا كبيرا ناتجا من تملك عدد محدود من الأشخاص مساحات كبيرة من الأراضي وتمتعهم بميزة ارتفاع أسعار هذه الأراضي بسبب الاستثمارات الكبيرة التي تستثمرها الدولة في سبيل توفير الخدمات.
خامسا: الإعانات والمنح: إعادة هيكلة للإعانات والمنح التي تقدمها الحكومة، حيث لا تستهدف فقط التوزيع المتساوي لهذه الإعانات للجميع دون اعتبار لمسألة الحاجة لهذه الإعانات من عدمه، بل يجب أن تستهدف جانبين مهمين: الأول الكفاءة في هذه الإعانات، والثاني أن توجه للفئات الأكثر احتياجا. كذلك، يجب إعادة النظر ومراجعة جميع أوجه الدعم والإعانات التي تقدم لقطاع الأعمال في المملكة، بالنظر إلى عدم تحقيقها الأهداف المرجوة منها بتعزيز الاستثمارات الصناعية في المملكة، وزيادة التوظف بالنسبة للمواطن.
سادسا: التخصيص: الاستمرار في برنامج التخصيص للكثير من الخدمات العامة، ليس بهدف التخلص من عبئها على الدولة، ولكن بهدف زيادة كفاءتها. الأمر الذي يتطلب رقابة ومتابعة لعملية تخصيص كل من هذه الموارد؛ للتأكد من انعكاسها على جودة الخدمة، وانخفاض تكلفتها، وزيادتها لفرص التوظف للمواطن، لا أن تكون عملية التخصيص شكلية، تقتصر فقط على تغيير الشكل القانوني والسلم الوظيفي للجهاز المسؤول عن الخدمة.
سابعا: إعادة هياكل التعرفة للخدمات: بناءً عليه، وبعد فترة انتقالية محددة، يجب العمل على إعادة هيكل التعرفة لكثير من هذه الخدمات، حيث تعكس إلى حد كبير التكلفة الحقيقية لها، وفي الوقت نفسه، وضع برنامج حكومي لتوفير البدائل لهذه الخدمات، خصوصا فيما يتعلق بخدمات النقل العام، وبرنامج حكومي لتغطية جزء من التكلفة للخدمات العامة للفئات الأكثر احتياجا. هذا البرنامج يجب أن يصمم على أساس تحفيز هذه الفئات للاستهلاك الكفء للتكلفة، كربطه بإعانة متناقصة كلما زاد الاستهلاك.
هذه القطاعات في مجملها تمثل قطاعات أساسية تحتاج إلى إصلاح وإعادة تأهيل شاملة لكي تكون قادرة على إنتاج خدمات ومنتجات وفرص توظف للمواطن تسهم في تعزيز مسيرة النمو الاقتصادي.