التحضير لمرحلة ما بعد القذافي

استأثر الوضع في ليبيا باهتمام مختلف شعوب العالم وحكومات دوله، نظراً للأحداث الدامية التي بدأت فيها منذ أكثر من أسبوعين، حيث يتمادى الحكم في ليبيا في قمع المحتجين الرافضين لنظام معمر القذافي بشراسة، من خلال تنفيذ المجموعات المسلحة المؤيدة للقذافي تعليماته بالقتال حتى الموت، وقيام القوات الموالية له بضرب الثائرين في المدن والبلدات بالطائرات والمدافع والأسلحة الرشاشة، وذلك على الرغم من أن جميع التقديرات تشير إلى أن معركته خاسرة مع الشعب الليبي، الذي سار في طريق يتطلع فيها إلى أفق جديد ونظام أفضل لبلده، كي يعيش فيه بكرامة وحرية.

تدويل الأزمة
دخل الوضع السياسي في ليبيا دائرة التدويل بعد تطورات وتغيرات، عربية ودولية، عديدة وجديدة، حدثت بشكل متسارع في الآونة الأخيرة، وخصوصاً بعد لجوء القذافي والمقربين منه إلى مواجهة التظاهرات الاحتجاجية بمختلف أساليب القمع الفظيع، على الرغم من أنها بدأت بشكل سلمي، فاستخدم المرتزقة لقتل المتظاهرين، ولم يكتف بذلك بل استخدم الطائرات الحربية لقصف جموع المتظاهرين، فسالت دماء غزيرة وكثيرة، الأمر الذي استدعى تحرك الجامعة العربية ومجلس الأمن الدولي، إضافة إلى تحرك منظمات وقوى دولية أخرى.
وبلغ التدويل ذروته باتخاذ مجلس الأمن الدولي القرار 1970 بإجماع أعضائه الـ 15، القاضي بفرض عقوبات صارمة وقاسية على نظام القذافي. ويشمل قيام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باتخاذ التدابير الفورية اللازمة "لمنع التوريد المباشر أو غير المباشر للأسلحة والمواد ذات الصلة بجميع أنواعها، بما في ذلك الأسلحة والذخيرة والمركبات والمعدات العسكرية إلى ليبيا أو بيعها لها أو نقلها إليها"، كما يحظر على ليبيا استيراد جميع الأسلحة والمواد المرتبطة بها، حيث يتعين على جميع أعضاء المنظمة الدولية منع رعاياها من تصديرها. وطالب القرار بالوقف الفوري لدوامة العنف واتخاذ خطوات لمعالجة المطالب المشروعة للشعب، كما حثّ السلطات الليبية على ممارسة أقصى درجات ضبط النفس واحترام قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدوليين، وضمان الممر الآمن للإمدادات الإنسانية والطبية والوكالات الإنسانية والموظفين الإنسانيين إلى ليبيا، إلى جانب المطالبة بالرفع الفوري للقيود المفروضة "على جميع أشكال وسائل الإعلام"، وضمان سلامة الرعايا الأجانب وتسهيل مغادرتهم. ودعا القرار إلى إحالة الوضع القائم في ليبيا منذ 15 شباط (فبراير) 2011 إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، باعتبار أن ما تردد عن الانتهاكات في ليبيا قد يرقى إلى مستوى جرائم الحرب، وشدد على ضرورة التنفيذ الكامل للعقوبات الواردة في القرار من أجل منع القذافي من ارتكاب المزيد من عمليات قتل المتظاهرين المدنيين.
ويظهر القرار إصرار القوى الدولية الفاعلة على توجيه رسالة قوية للعقيد القذافي، مفادها أن عهده قد انتهى، وعليه التوقف عن ارتكاب المجازر بحق المحتجين على حكمه، الأمر الذي لاقى ترحيباً من طرف قادة المحتجين. ومن جهة أخرى، اتخذ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قراراً بالإجماع، خلال جلسة طارئة في الـ 25 من الشهر الماضي عقدها في جنيف، يقضي بإنشاء لجنة مستقلة للتحقيق في الجرائم المرتكبة خلال قمع الاحتجاجات المتواصلة في ليبيا، وقرر أيضاً تعليق عضوية ليبيا فيه.
من جانبه، وقّع الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 26 من الشهر الماضي على أمر تنفيذي، يقضي بتجميد أصول القذافي وبعض أفراد عائلته وكبار مسؤولي حكمه، إضافة إلى الحكومة الليبية، والبنك المركزي الليبي، وصناديق الثروة السيادية. واعتبر أوباما أن "هذه العقوبات تستهدف حكومة القذافي في الوقت الذي تحمي فيه الأصول المملوكة للشعب الليبي". كما اتخذت حكومات الاتحاد الأوروبي إجراءات مماثلة، تقضي بتجميد الأرصدة وفرض حظر على السفر بشأن ليبيا.

سابقة للجامعة
ويبدو أن فظاعة ما قام به، ولا يزال، نظام العقيد معمر القذافي حيال انتفاضة الشعب الليبي، أفضت إلى سرعة تحرك الجامعة العربية، وإلى قيام تنسيق بينها وبين القوى الدولية، حيث عقدت جامعة الدول العربية اجتماعاً عاجلاً، أعادت فيه الروح لكيانها ولدورها حيال الشعوب العربية، وبرهنت أنها باتت مختلفة عما كانت عليه قبل ثورتي تونس ومصر، فلم تعد مهمتها محصورة على بقائها مجمعاً أو محفلاً للدول والأنظمة العربية فقط، بل باتت تحسب حساباً لما يجري للشعوب العربية أيضاً، من خلال اتخاذها موقفاً حازماً وصارماً حيال ممارسات النظام الحاكم في ليبيا، وقرارها تعليق عضوية ليبيا في الجامعة إلى حين يقف قمع السلطات فيها للشعب الليبي، الأمر الذي يشكل سابقة في تاريخ الجامعة العربية منذ نشأتها وإلى يومنا هذا.
وجاء قرار الجامعة العربية بالوقوف مع الشعب الليبي، كي يعلن بداية مرحلة جديدة في تاريخ هذه المنظمة، تنسجم مع التغيرات والتحولات الكبيرة التي يشهدها العديد من الدول العربية، وبما يفضي إلى تشكل نظام عربي وإقليمي مختلف عن سابقه. وقد أسهم موقف الجامعة في التأثير في التحركات الدولية، خصوصاً في مجلس الأمن الدولي، الذي أصدر قراراً يتماشى مع محتوى قرار الجامعة العربية.
وقد عودتنا الجامعة على النأي بنفسها عن اتخاذ أي موقف من الأوضاع الداخلية في أي بلد عضو، يصب في مصلحة الشعوب العربية، حيث لم يسبق لها أن اتخذت موقفاً واضحاً من تصرف أي نظام عربي ضد جماعات المعارضة فيه أو تجاه أي خروقات لحقوق الإنسان، لكن الطابع الدموي الخطير الذي أخذته الأحداث في ليبيا، والاستقالات المتتالية لبعض الوزراء وقادة الشرطة الجيش وللدبلوماسيين الليبيين في معظم دول العالم، والمواقف التي عبرت عنها هيئات دولية وإقليمية أخرى وخصوصا مجلس الأمن، دفعت هذه العوامل مجتمعة الدول الأعضاء في الجامعة العربية إلى اتخاذ موقف، يعد الأول في تاريخ العمل العربي الرسمي المشترك.
وتكمن أهمية القرار ضد نظام القذافي في تعليله بما اقترفه من خروقات خطيرة لحقوق الإنسان، وفي تنديد مجلس الجامعة بـ "الجرائم" المرتكبة ضد التظاهرات والاحتجاجات الشعبية السلمية الجارية في عديد من المدن الليبية والعاصمة طرابلس، واستنكاره الشديد لأعمال العنف ضد المدنيين "والتي لا يمكن قبولها أو تبريرها، وبصفة خاصة تجنيد مرتزقة أجانب، واستخدام الرصاص الحي والأسلحة الثقيلة وغيرها في مواجهة المتظاهرين، والتي تشكل انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني والدولي"، حيث تمثل الإشارة إلى حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي في حيثيات القرار أمراً جديداً ومهما، بالنظر إلى أنه لم يسبق للجامعة أن نددت صراحة بأي خروقات لحقوق الإنسان في بلد عربي، واكتفت في أحسن الأحوال بتضمين قراراتها عبارات عامة لا تحمل موقفاً واضحًا أو صريحاً.

ما بعد القذافي
تدرك الولايات المتحدة أن نظام معمر القذافي بدأ يتهاوى، ولم يعد يمتلك زمام الأمور في ليبيا، فراحت تحضر لمرحلة ما بعد القذافي، وتبحث عن طرق للاتصال والتحاور مع بعض قادة الحركة الاحتجاجية الليبية في بنغازي، بما فيها المجلس الوطني والحكومة المؤقتة التي أعلن تشكيلها مصطفى عبد الجليل وزير العدل المستقيل. يضاف إلى ذلك قيام وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون باتصالات عديدة ومكثفة مع نظرائها، الأوروبيين والعرب، وذلك في سياق الإعداد للمرحلة القادمة في ليبيا وكيفية التعامل معها، وهددت من جنيف القذاقي بالقول بأن كل الخيارات مفتوحة طالما بقي مستمراً في قمع شعبه.
ولا شك في أن الولايات المتحدة، ومعها معظم دول الاتحاد الأوروبي، لا يهمها طبيعة مرحلة ما بعد القذافي في ليبيا، إلا بمقدار ضمان استمرار تدفق النفط الليبي إلى الأسواق، حيث كان النفظ عاملاً حاسماً في تعاملها مع القذافي وما قام به من فظائع، داخل ليبيا وخارجها، ودخلت معه في تسويات عديدة.
وهناك تسريبات تحدثت عن ضغوط واجهتها الإدارة الأمريكية، بغية القيام بتنفيذ تدخل عسكري أمريكي عاجل في ليبيا، وُضعت مخططاته في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان على خلفية أزمة خليج سرت. ويقف وراء هذه الضغوط أعضاء من الكونجرس وفي مقدمتهم السيناتور الديمقراطي جو ليبرمان، والسيناتور الجمهوري جو ماكين المرشح الجمهوري الرئاسي السابق، لكن الإدارة الأمريكية تفضل استخدام الأزمة الليبية وإدارتها بشكل يولّد أزمات أخرى في المنطقة، وتنسق لتحقيقها مع حلف الناتو ومع بعض دول الاتحاد الأوروبي. والهدف من ذلك إعادة إنتاج أنظمة حكم جديدة، تتماشى مع بعض تطلعات شعوبها، وتضمن استمرار وضمان المصالح الأمريكية في المنطقة.

الناتو الموقف التركي
ودخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) سريعاً على خط الأزمة الليبية، من خلال تصريحات قادته العلنية، والاجتماع الطارئ الذي بحث فيه الوضع في ليبيا، فضلاً عن الجهود والاتصالات السريّة، والأحاديث عن استعداداته وجاهزيته العسكرية. وتحدث معلومات عن خطط كانت تعد للتدخل العسكري في ليبيا، على غرار ما حصل في صربيا وأفغانستان وسواهما، حيث الذرائع متوافرة في الحالة الليبية، وليس أقلها، التدخل الإنساني وحماية السكّان المدنيين الليبيين، أو حماية الأمن الإقليمي والدولي والمصالح الأمريكية والأوروبية.
وشكلت تركيا عقبة كبيرة أمام الخطط والاحتمالات التي وضعها حلف الناتو، لأنها رفضت بشكل قاطع أي حديث عن التدخل العسكري، الأمر الذي أبعد شبح التدخل العسكري للحلف في ليبيا، لأن قرارات الناتو تؤخذ بموافقة جميع أعضائه، وهو أمر يذكر بالموقف التركي حيال الحرب على العراق. وقد سربت أجهزة الاستخبارات التركية معلومات عن وجود احتمالات كبيرة حول اعتراض تركيا على قيام حلف الناتو بعملية ضد ليبيا. لكن، في المقابل سُربت تقارير استخباراتية دولية مضادة للتسريبات التركية، تفيد بأن تركيا قد توافق على قيام الناتو بعمل عسكري في ليبيا مقابل تنازلات أمريكية وأوروبية في ملف انضمامها للاتحاد الأوروبي، وفي ملفات إقليمية أخرى. ويبدو أن الموقف التركي كان حازماً حول احتمالات التدخل العسكري لحلف الناتو، على الرغم من أنه اتسم منذ البداية بحذر شديد حيال الوضع في ليبيا، لكن، ومع تأزم الوضع خرجت تصريحات تطالب بالإسراع في إجلاء الرعايا الأتراك من ليبيا، بوصفه أولوية في السياسة الخارجية التركية، ثم طالب بعض الساسة الأتراك رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان باتخاذ موقف حازم من القذافي، لكن أردوغان اكتفى بمطالبة القذافي بالتجاوب مع مطالب الشعب، وعدم استخدام العنف، واعتبر أن مواقف تركيا تحددها المصالح الوطنية لتركيا قبل أي شيء آخر، الأمر الذي جعل تركيا تقف بين طرفي المواقف المبدئية والمصالح التركية. ويعارض المحتجون الليبيون بوضوح أي تدخل عسكري أجنبي، أمريكي أو أوروبي أو أطلسي، تحت أية ذريعة كانت، ويرون أنهم ليسوا في حاجة إلى مساعدة عسكرية للإطاحة بالنظام وإيقاف حمام الدم، لكن موقفهم هذا لا يعفي المجتمع الدولي من مسؤولياته. ويعتقد قادة الحركة الاحتجاجية أن العقوبات وحدها لا تكفي، لأن هناك تجربة نحو عقد من العقوبات مع النظام لم تترك أي أثر، ويطالبون بتحديد منطقة حظر طيران فوق طرابلس، وأخرى فوق معاقل القذافي، وممارسة الضغط اللازم على بعض دول الجوار لمنع وصول المرتزقة الذين يمكن أن يطيلوا عمر النظام، ويدخلوا البلاد في تجربة تهدد وحدتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي