رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هل أعاد الإنسان العربي تشكيل ذاته؟

في عام 1413هـ أصدرت كتابي المعنون ''العقل العربي وإعادة التشكيل''، وعمدت في الكتاب إلى تناول العقل العربي من وجوه عدة أهمها قنوات التشكيل التي أسهمت، وتسهم في تكوين العقل العربي، التي أوصلته إلى الوضع الذي كان عليه العقل في تلك الفترة أي ما قبل 20 سنة من الآن. لقد توقفت، وبشكل مفصل عند قنوات التشكيل، التي من أهمها المناخ الاجتماعي ومظاهر الحياة في المجتمع من أسواق وأنظمة ومنابر ثقافية ومناسبات اجتماعية يلتف حولها الناس، ويفرحون بها، كما أن الدين والثقافة واللغة والعادات والتقاليد والمدارس والجامعات والمناهج والمقررات, تمثل قنوات أساسية في التأثير في الكيفية التي يفكر بها الأفراد، وكيف يدركون الأمور، وما يحيط بهم من ظروف أو تغيرات سواء داخلية أو خارجية.
وسائل الإعلام والمساجد، وكذلك الكتب والمجلات المتاحة، أو بالأحرى ما يسمح بدخوله وتداوله بين الناس سواء كانوا مثقفين أو عامة كلها لها دور في صياغة العقول. إن وسائل الإعلام بكل صورها من تلفزيون وإذاعة، أو ما هو مقروء من صحف ومجلات، كان لها دور أساس في صياغة العقول بالصورة التي يراد لها أن تكون عليه، وبما يخدم أهدافاً في كثير من الأحيان خاصة، وليست أهدافاً عامة، أو ذات مردود على الصعيد الاجتماعي أو الشعبي. بحكم أن الشعوب العربية معظمها يدين بالإسلام, لذا لعبت المساجد في خطب الجمعة وفي حلقات الذكر والتدريس دوراً في تشكيل العقول وفق صياغة تتفق مع أسس وقواعد الإسلام دون أن يكون في الغالب لها دور في تناول الشأن العام أو الشأن السياسي، وإن وجد فهو في الغالب محدود، ويفتقد النظرة التحليلية الدقيقة والموضوعية، وغالباً تتأثر بالتعليمات الرسمية.
الندوات والمؤتمرات أسهمت في صياغة العقول رغم أن تأثيرها في الغالب محدود بالفئات المتعلمة، ومن لها اهتمامات ثقافية، أما عموم الناس فإن مثل هذه النافذة غير متاحة لهم، ولذا تكون قناة التأثير المتاحة لعموم الناس هي الإذاعة والتلفزيون والصحف الرسمية, التي تنتقي وبدقة فائقة ما تعرضه لاعتبارات رسمية. الشائعات والنكت بشأن أوضاع الناس واحتياجاتهم أو ما يصور الأوضاع القائمة وسائل لعبت دوراً بارزاً في تشكيل العقول، وإن كانت النسبة تختلف من مجتمع إلى آخر في استخدامها حسب طبيعة كل مجتمع، وثقافته العامة.
بعد تناول قنوات التأثير في العقل العربي في الفترة التي كتب بها الكتاب قمت بعمل تحليل معمق لنماذج تمثل أداء العقل العربي، واستشهدت على هذا الأداء بمواقف عدة خاصة ما له صبغة عامة، أو يمثل قضية عامة مثل قضية فلسطين، التي تستحوذ على وجدان عموم الناس في العالم العربي. واتخذت من النخبة متمثلة في العلماء، السياسيين، المفكرين، المثقفين، الأدباء، نجوم الفن والرياضة، وعناصر التأثير الأخرى أساساً للتحليل. لقد تم التركيز على النخبة نظراً لأن النخبة في كل المجتمعات هي ما يمكن رصد أدائها المؤثر في حياة الناس، وفي قضاياهم العامة.
عملية التحليل أبرزت ملامح أساسية تمثل سمات واضحة للعقل العربي في تلك الفترة، وقد ينطبق على عموم الناس ما ينطبق على نخبتهم حيث يتأثرون بما يصدر عنهم، وبما يفكرون فيه، وبما يرغبون أن يروا عليه عامة الناس. ملامح العقل العربي في تلك الفترة التبعية السياسية والثقافية, التي انطبعت على أداء العقل العربي، هذه التبعية التي كان أبرز نتائجها عجز العقل العربي، وفقدانه فاعليته المتوقعة منه، التي أفقدته دوره الحضاري على المستوى الداخلي، وكذلك المستوى العالمي حتى أصبح مستهلكا لكل شيء مادي ومعنوي.
العقل العربي واتكاليته كانا من أبرز السمات، التي جعلت الإنسان العربي يعتمد على غيره في قضاء شؤونه العسكرية والسياسية والثقافية، وما التعويل على الدول الكبرى لحل قضايانا واتخاذ مواقف تخرجنا من المآزق التي نوجد فيها، إلا مثال على ذلك كما في قضية فلسطين، وكذلك التدخل الخارجي عند غزو العراق للكويت، وفشلنا في حل هذه المشكلة دون تدخل الآخرين.
التنازل عن الحقوق، والرضا بالقليل منها، بل استجداء العدو ليمنحنا جزءاً من الحقوق ظهر كسمة بارزة للعقل العربي الذي فقد القدرة على الأداء الخلاق، ولذا أصبحت أطروحات وحلول الآخرين هي الرائجة والسائدة في الفترة التي كانت محل التحليل. إن عدم القدرة على التحليل وعدم النظرة الشمولية القادرة على أخذ كل المتغيرات ذات العلاقة بأي موضوع يكون محل الاهتمام أوجد حالة من الشلل في العقل العربي.
ملامح العقل العربي النخبوي أو الرسمي أثمرت عن إنسان عربي مهمش يشعر بالعجز والتيه والضياع الذي أفقده البوصلة وقطعه عن ماضيه المشرق ذي البطولات والتأثير العالمي.
إذا كان العقل العربي النخبوي أو الرسمي سيد المرحلة الماضية، والمؤثر فيها، فإن المرحلة الراهنة وما تشهده المنطقة العربية من حراك اجتماعي شعبي يكشف أن العقل الجمعي أو الشعبي وليس النخبوي, أصبح سيد المرحلة، ولم يعد متلقياً من مصادر التأثير والتشكل التي عرضناها في بداية المقال. إن ثورة التقنية وما جلبته معها من مواقع اجتماعية، وما أحدثته من يسر في التواصل وتبادل المعلومات لم تجعل لشباب العصر الحاضر حاجة إلى الاعتماد على المصادر التقليدية التي كانت تحركه ضمن مسارات معينة، وتشكله وفق قوالب يرى النظام الرسمي أنها المناسب لأنها تحقق أهدافه وطموحاته فقط. الإنسان العربي اكتشف ذاته الأصلية من خلال تحرره من مصادر التأثير الرسمية التي غيبت عقله لعقود، بل جعلته في حالة غيبوبة مستعصية لولا عناية الله التي أنقذته، وما نشاهده من تحركات اجتماعية في العالم العربي مثال حي على استعادة الناس ذواتهم الحقيقية بعد تغييبها وتزييفها خلال الفترة الماضية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي