كل جديد يأتي من ليبيا
تعيش ليبيا منذ 15 شباط (فبراير) الجاري حركة احتجاجية شعبية عارمة، بدأت في الشرق الليبي من ''ميدان الشجرة'' في مدينة بنغازي وامتدت إلى مدينة البيضاء، ثم إلى درنة، ثم مسراطة، ووصلت إلى مدن أخرى في الغرب، خصوصاً في الزاوية، وبلغت ذروتها في طرابلس عاصمة ليبيا ورمز وحدتها.
ويبدو أن مدينة بنغازي، التي انطلقت منها ''ثورة الفاتح''، أعلنت بداية نهايتها ونهاية مرحلة كاملة استمرت أكثر من 40 عاماً من حكم العقيد القذافي، وما سمي الجماهيرية واللجان الشعبية والكتاب الأخضر.
النزوع للاحتجاج
يجسد الحدث الليبي، في أيامنا هذه، الحراك الشعبي العربي في نزوعه إلى الشكل الاحتجاجي، حيث وصلت الاحتجاجات إلى أكثر من بلد عربي في المشرق (الأردن واليمن والبحرين) وفي المغرب (الجزائر والمغرب)، بعد أن بدأتها الثورة التونسية، ثم الثورة المصرية، اللتان أنهتا نظامين راسخين، يمتد الأول إلى 23 سنة، فيما استمر الثاني 30 سنة، وبالتالي فإن ما تشهده اليمن، الأردن، الجزائر، المغرب، والبحرين هي موجات متتالية من الاحتجاج، تحاول التعبير عن الأوضاع في كل بلد، وعن حجم معاناة الناس فيه، لذلك فهي تختلف في الدرجة والحدة من بلد عربي إلى آخر.
ويتسم الحراك الاحتجاجي الليبي بتوظيف لمختلف الحساسيات في المجتمع الليبي، الشبابية، السياسية، والدينية، حيث استخدم الشباب إمكانات التواصل الاجتماعي، وأسهمت القوى السياسية، أو ما تبقى منها، في ليبيا، إضافة إلى إسهام بعض الدعاة والمشايخ وانضمام عديد من القبائل إلى الحركة الاحتجاجية، الأمر الذي أكسبها زخماً كبيراً.
وهنالك سمات خاصة في ليبيا، حيث تفتقر إلى قيادات سياسية واضحة، لأن الزعيم الليبي العقيد القذافي هو الحاكم المطلق في ''الجماهيرية العظمى''، وينفي عن نفسه صفة الحاكم السياسي أو الرئيس، وكذلك لا يمتلك أبناؤه وبعض المقربين منه أية صفة سياسية. وهنالك من يرى أن بعض المسؤولين في الدولة من وزراء وكبار الموظفين ومديري المؤسسات الحكومية يتحولون إلى مجرد ''خدم للقائد'' بانتفاء الصبغة السياسية الرسمية عنهم. وتتمركز الدوائر الحاكمة في ليبيا على دائرة العقيد القذافي والمقربين منه من الأبناء والأقارب و''الإخوة'' والمسؤولين في مؤسسات القيادة السياسية، مثل مكتب معلومات القائد، والحرس الخاص، وهم مختارون بدقة ويمثلون قمة الولاء للفئة الحاكمة. ولا يوجد جيش قوي، لأنه قُسم إلى وحدات ومجموعات تقودها عناصر مقربة من العقيد القذافي، ومع ذلك انضمت عدة مجموعات منه إلى جموع المتظاهرين، ورفض عديد من أفراد الجيش ضربهم أو قصفهم. وكذلك، يختلف شكل النظام السياسي الليبي عن سواه من الأنظمة العربية، حيث تسود ليبيا ظاهرة المؤتمرات المرتبطة برأس السلطة، وتتغلغل اللجان الثورية في مختلف مفاصل الدولة، بدءاً من الهيئات التنفيذية وصولاً إلى الهيئات التشريعية. يضاف إلى وجود تركيبة قبلية في مختلف أنحاء ليبيا، خصوصاً المناطق الريفية. كما أن ليبيا تمتلك موقعاً مهما على الصعيد الدولي، حيث المصالح الدولية، خصوصاً مصالح الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي؛ وفي مقدمتها إيطاليا وبريطانيا وسواهما.
همزة الوصل
يبدو أن ليبيا تريد أن تكون همزة الوصل بين ثورتي تونس ومصر، بعد وصول ارتداداتهما إليها بقوة وبسرعة قياسية، حيث دعا النشطاء من الشباب الليبي فور سماعهم بنهاية النظام المصري، إلى يوم غضب ليبي في السابع عشر من الشهر الجاري، تزامناً مع الذكرى الخامسة لمظاهرات مدينة بنغازي عام 2005، التي نظمها في ذلك الوقت ناشطون إسلاميون وووجهت بقمع الشرطة وأجهزة الأمن، وأطلق الشباب على يوم الغضب اسم ''انتفاضة 17 فبراير 2001''، داعين لجعل هذا اليوم يوماً للغضب، يطالبون فيه بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبإطلاق مزيد من الحريات العامة والفردية. ولم ينتظر المحتجون في بنغازي هذا التاريخ, بل بدأوا حراكهم الاحتجاجي قبله بيومين، ثم امتد الاحتجاج إلى مدن أخرى، وذلك على الرغم من أن الحراك الاحتجاجي قوبل بإطلاق الرصاص، وسقط عديد من القتلى بين صفوف الشباب، أي أن الحكم الليبي لجأ فوراً إلى استخدام لغة الرصاص والمعالجة الأمنية، مع العلم أن الشعارات التي أطلقت كانت: ''سلمية .. سلمية''، الأمر الذي أسهم في انضمام قطاعات واسعة من الليبيين إلى الحراك الاحتجاجي، ليصل ذروته مع دخول العاصمة فيه. وعليه، ردّ الحكم الليبي بقتل مزيد من المحتجين، ثم بدلاً من أن يخرج العقيد القذافي على شاشة التلفزة، كي يهدئ روع المحتجين، خرج ابنه سيف الإسلام القذافي، الذي لا يملك أي صفة رسمية، ليهدد جموع المحتجين ويتوعدهم، فخيّرهم ما بين ''الإصلاح والمؤتمر الشعبي'' والاستعداد ''للدخول في مواجهات وحرب أهلية وتدمير النفط والغاز وانتشار الفوضى''. وتوعّد بأن ''ليبيا ستكون لمدة 40 سنة بلا تعليم وبلا صحة إذا استمر الوضع ولن تجدوا من يعيد البناء في البلد''، لذلك طالبهم بأن ينسوا تعليم أبنائهم وصحتهم، وأن يستعدوا لاستعمار جديد، معتبراً أن ''معمر القذافي ليس زين العابدين بن علي وليس حسني مبارك''، ويعلم جيداً أن رسميين مصريين قالوا قبله إن حسني مبارك ليس زين العابدين، والأخطر من ذلك أنه توعّد بأن يحتكم ''إلى السلاح الذي أصبح في متناول الجميع، وسنبكي على مئات الآلاف من القتلى بدلا من أن نبكي الآن على بعض القتلى''.
والظاهر أن الحكم الليبي اعتقد أنه تعلّم الدرس مما جرى في تونس ومصر، أي من جاريه في الشرق منه والغرب، وظنّ أن عليه ألا يتردد كما تردد النظامان في كلا البلدين في ارتكاب مجازر دموية ضد المتظاهرين، الأمر الذي أفضى إلى سقوطهما، لذلك حشد كل ما في جعبته من وسائل قمعية لإخماد الانتفاضة الشعبية. وبدأ بتنفيذ تهديدات سيف الإسلام القذافي فور وصول التظاهرات إلى العاصمة، فلجأ إلى ارتكاب المجازر حسب الأنباء الواردة من المدن الليبية، خصوصاً طرابلس، وإفادات شهود العيان، وتحدثت الأنباء عن قصف طيران حربي ومدفعي للمتظاهرين في العاصمة الليبية، وذلك في سياق عملية قمع واسعة، باستخدام الذخيرة الحية ضد المحتجين في طرابلس، وفي ظل قطع السلطات جميع الاتصالات عن ليبيا، ووسط نداءات استغاثة من نشطاء ليبيين، الذين وصفوا ما جرى بمذبحة وعمليات إبادة ترتكب ضد المتظاهرين في منطقة تاجوراء في طرابلس.
ونالت بنغازي نصيبها من القتل والقمع، الأمر الذي يؤكد أن الزعيم الليبي لا يكن كثيرا من الود للجزء الشرقي من بلاده، خاصة مدينة بنغازي، على الرغم من أن هذه المدينة كانت من أكثر المدن الليبية مساندة لثورته ضد النظام الملكي في سنتها الأولى، ووقتها قرر ترفيع جميع طلاب كلية الحقوق في جامعة بنغازي دون امتحانات، لأن طلاب هذه الكلية كانوا الأكثر حماساً في تأييدهم لثورة ''الفاتح من أيلول''، فهذا الجزء كان مصدر متاعب وانقلابات، ومولداً للجماعات المتطرفة ـــ حسبما ينظر إليه حاكم ليبيا.
غير أن المدهش والخطير جداً أن يلجأ الحاكم إلى استخدام المرتزقة من أجل قتل مواطنيه، وأن يستخدم الطائرات الحربية والمدافع لقصف مواطنيه، لأنه يتعامل مع مواطني بلده بوصفه أشبه بقوة احتلال، مع العلم أن التاريخ العربي الحديث عرف طغاة قصفوا مواطنيهم ودمروا مدنهم، لكن الأمر اليوم مختلف مع ثورة الاتصالات والتقنيات الحديثة والأقمار الصناعية، حيث لم يعد ممكناً التستر على الجرائم والمرور عليها مرور الكرام كما يقال، بل هناك منظمات ومؤسسات مدينة دولية وعربية ستفضح مرتكبي الجرائم وستلاحقهم حتى تتم محاكمتهم. والأدهى هو تواتر أنباء عن زجّ كتائب أمنية، تضم عدداً كبيراً من المرتزقة، يُقال إنهم من ذوي الملامح الإفريقية في عديد من المدن لإخماد الاحتجاجات، وقامت بإطلاق النار عشوائياً على المتظاهرين، فأصابت وقتلت المئات.
المطالب والأسباب
لا شك في أن مطالب الشعب الليبي تتمحور حول قضايا الحريات، وإنهاء اختزال الوطن والشعب في شخص الحاكم، وإرساء ممكنات الممارسة الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، وتوزيع الثروات بشكل عادل، بما يضمن تحسين الأوضاع المعيشية، ومحاربة الفساد المستشري، والالتفات إلى التنمية المتوازنة والناجعة. وهي مطالب يشترك فيها الشعب الليبي مع عديد من الشعوب العربية وسواها من شعوب العالم في عصرنا الراهن.
غير أن المطالب كبرت مع تصاعد الاحتجاج، حيث طالبت مجموعة من الشخصيات والفصائل والقوى السياسية والتنظيمات والهيئات الحقوقية الليبية بتنحي العقيد القذافي، مؤكدة حق الشعب الليبي في التعبير عن رأيه بمظاهرات سلمية دون أي مضايقات أو تهديدات من النظام. وجاءت تلك المطالب في بيان وقعه أكثر من 200 شخصية من شرائح مختلفة من المجتمع الليبي، تضم نشطاء سياسيين ومحامين وطلاب ومهنيين وموظفين حكوميين ورجال أعمال ومهندسين وأطباء وإعلاميين وأساتذة جامعيين وضباط وسفراء سابقين، ومجموعة أطلقت على نفسها اسم ''ضحايا حرب تشاد''. إضافة إلى توقيع بعض الحركات والمنظمات السياسية والحقوقية، مثل ''الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا''، و''حركة التجمع الإسلامي الليبية''، و''حركة خلاص''، و''التجمع الجمهوري من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية''، و''رابطة المثقفين والكتاب الليبيين''، ومنظمتي ''الراية'' و''الأمل'' لحقوق الإنسان، و''اللجنة الليبية للحقيقة والعدالة''.
وقدم ما حققه الحراكان التونسي والمصري المثال للحراك الليبي، لذلك تمحورت مطالب المحتجين على تحقيق ما حققه الشعبان التونسي والمصري، خصوصاً أنه يمتلك مجموعة من الأسباب المتراكمة، التي ترتكز إلى جوانب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وأخرى وطنية ودولية، اجتمعت كي تدفع بالعملية الاحتجاجية نحو مسارات مؤثرة، جعلت الحكم في ليبيا يترنح ويفقد توازنه، فالنجاح الذي حققته الثورتان أظهر أن قوة الشعب تكمن في حراكه الاحتجاجي وخروجه إلى الشارع، وأن الجيش يتحول إلى قوة مساندة للشعب وليس أداة لدى النظام لقمع الشعب.
وترجع الأسباب لما يجري في المدن والمناطق الليبية إلى أكثر من 41 عاماً من الظلم والتنكيل والحكم الفردي، وغياب أبسط الحقوق الإنسانية، حيث لا وجود لمنظمات مدنية وأحزاب تعبر عن حساسيات الشعب الليبي، وينظر الليبيون إلى القانون 19 مثلاً بوصفه قانوناً جعل من تكوين المؤسسات المدنية قضية أمنية، إضافة إلى أن سوء توزيع الثروة جعل الشعب الليبي يعيش في أغلبيته تحت خط الفقر، على الرغم من أن ليبيا بلد نفطي وغني، بينما رواتب موظفي الدولة ما زالت كما هي منذ 30 عاما ولم ترتفع، ولم تغادر في معظمها 200 دولار أمريكي، على الرغم من ارتفاعات الأسعار المتكررة. وينظر الليبي إلى تونس فيجد أن دخل الفرد التونسي أعلى من دخله، مع أن بلده أغنى من تونس أضعاف المرات، بينما تبلغ الثروة المالية في بلاده أكثر من 200 مليار دولار من الفوائض المالية النفطية، إضافة إلى 50 مليار دولار أخرى تدخل الخزانة الليبية سنوياً من عوائد أخرى، وهو محروم من التمتع بخيرات بلاده وعوائدها الكبيرة جداً.
ولا ننسى أن الفساد يحدث في ليبيا على أعلى المستويات السياسية في الدولة، حيث يشهد واقع الحال أن مستويات عليا من الفساد ارتبطت بالشخصيات والحكومات التي تعاقبت، والتي تم اختيارها من طرف العقيد القذافي شخصياً، وأغلب من تورطوا في الفساد كانوا من المعدمين وأصبحوا خلال سنوات قليلة من الأثرياء وأصحاب الملايين في الداخل والخارج.
ويطاول الفساد شرائح من البيروقراطيين الإداريين ضمن القطاعين الخاص والعام، خاصة فيما يسمى ''القطاع العام''، حيث إن الدولة تعد أكبر مؤسسة توظيفية، وأكبر مؤسسة استهلاكية وفوضوية في ليبيا. وهو السبب في إيجاد بيئة خصبة لانتشار الفساد في القطاع الخاص، ولا شك في أن الفساد السياسي له مضاعفات كثيرة على النظام السياسي الحاكم.
دور الشباب
الملاحظ أن الشباب في ليبيا، بمختلف مشاربه واهتماماته، له دور كبير في الحركة الاحتجاجية، محاكياً بذلك بروز دور الشباب التونسي والمصري. ويشكل الشباب الليبي، الذين تقل أعمارهم عن سن الخامسة والعشرين، نحو 52 في المائة من مجموع السكان الليبيين. ويرى بعضهم أن هؤلاء الشباب باتوا غير مستعدين لتقبل الهوان والذل اللذين كان يقبلهما آباؤهم على مدى أكثر من 40 عاماً ماضية، وأصبح يطالب بالتغيير الجذري، للوصول إلى العدالة الاجتماعية والتغيير الديمقراطي وتوزيع ثروة البلاد على أسس المساواة والعدالة، لذلك لجأ إلى تشكيل مجموعات شبابية عديدة، الأمر الذي أسهم في تصاعد الأحداث، حيث تشكلت مجموعة أطلقت على نفسها اسم ''حركة أحفاد عمر المختار''، وأعلنت أنّها تشكّلت من بعض الشباب الليبي بمختلف انتماءاته، وانبثقت من رحم الظلم والقمع المسلّط على الشعب الليبي. ودعت الحركة إلى ''كسر حاجز الخوف والاستلهام من الشعبين التونسي والمصري، وتوحيد الصفوف من أجل مصلحة الوطن، وفرض'' إرادة الشعب بالاحتجاجات والإضرابات حتى يحقق هدفه المتمثّل في تغيير النظام''. وهي تعتقد أن ''الشعوب العربية وعت الدرس وأيقنت أن الشعب إذا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر''.
ويبدو أن الشباب الليبي اختار أن يهرب من واقع الفقر والبطالة والتهميش إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بعد أن عاش سنوات من الحرمان والإحباط وفقدان الأمل، وقرر أن يستفيد من إمكانات التواصل الاجتماعي والإنترنت، وأن يكتسب جرأة التفكير والتنسيق، والتعبير عن تطلعاته وتوقه للحرية والتغيير وقيادة الحركات الاحتجاجية وتحويلها إلى ثورات. وهبّت رياح الاحتجاج الشبابي في بنغازي، البيضاء، شحات، درنة، مسراطة، وطبرق وغيرها، وذلك على الرغم من سياسة القمع المطبقة، وعلى الرغم من توقف خدمة الإنترنت والاتصالات الخلوية، والتشويش على بث بعض القنوات الفضائية التي تتابع ما يجري في ليبيا.
ويسهم الإحباط وانسداد الأفق السياسي والاجتماعي، إضافة إلى الفقر والحرمان، وغياب العدالة الاجتماعية وسوء توزيع الثروات .. يسهم كل ذلك في تهيئة المناخ المناسب للاحتجاج ليس في ليبيا فقط، إنما في أي مكان من العالم، ويتأثر الشباب بشكل أكبر، خصوصاً في ظل تردي الأوضاع المعيشية وفقدان الأمل في مستقبل الشباب، وعدم توافر فرص عمل تؤمّن لقمة العيش الكريم، فضلاً عن إحساس الشباب بفقدان الكرامة في بلدهم، وبين ناسهم وأهلهم. وحين تأتي ممكنات الاحتجاج ورغبة الشباب في تحقيق الأحلام المفقودة، فإن الشباب سيثور ويخرج إلى الشارع كي يتظاهر ويستنكر الممارسات ويطالب بالتغيير، ووقتها لن يجدي خطاب التعهد بالتغيير والإصلاح ونفي التوريث، لأنهم وصلوا إلى مرحلة يريدون فيها أن يتحقق ما يطلبون على الأرض فوراً، ولن يصدقوا أي وعود.
ردود الفعل
أظهر الحدث الليبي هشاشة وضعف الردود العربية والدولية على ما يجري، واتسمت ردود الفعل الدولية بالازدواجية والتردد، ولعل أبرزها جاء من بريطانيا التي وصف وزير خارجيتها وليام هيج ما يجري في ليبيا بأنه ''مروع وغير مقبول''، وأكد إدانة بلاده للعنف الذي تشهده ليبيا، بما في ذلك ''التقارير عن استخدام نيران الأسلحة الثقيلة ووحدات من القناصة ضد المتظاهرين''، في حين قال رئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني إنه لا يريد ''إزعاج'' الزعيم الليبي بشأن حركة الاحتجاجات. وأعلنت بريطانيا أنها ألغت أكثر من 50 ترخيصا لتصدير الأسلحة، خصوصاً تلك المتعلقة بقنابل الغاز المسيل للدموع والذخائر، إلى كل من ليبيا. ودعت كندا ليبيا إلى إجراء ''حوار سلمي'' مع المتظاهرين وعبر وزير خارجيتها لورانس كانون عن ''قلقه البالغ'' من القمع الذي تمارسه السلطات ضدهم, كما ناشد الحكومة الليبية ''احترام الحقوق المتعلقة بحرية التعبير والتجمع، والبدء في حوار سلمي مع مواطنيها للرد على مخاوفهم المشروعة''. أما رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما فعبّر عن قلقه إزاء ''التقارير عن العنف في البحرين وليبيا واليمن''، واستنكاره استخدام العنف ضد المحتجين المسالمين ''في هذه الدول وفي أي مكان يحدث فيه''. وعليه فإن ردات الفعل الدولية تثبت أن الغرب يريد تأمين مصالحه، وأنها تكون بحجم مصالحه مع هذه الدولة أو تلك، وبحسب موقعها الاستراتيجي، ومدى تأثيرها في الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، ولا تهمه القيم والمبادئ، خصوصاً تلك المتعلقة بمبادئ حقوق الإنسان، حين يتعلق الأمر بالإنسان في المنطقة العربية.
وعلى الرغم من ذلك كله، ومن المواقف والتدخلات الخارجية، فإن مسار الأحداث سيتحدد وفق الواقع الليبي، حيث تعلّم المحتجون الليبيون من تجارب زملائهم في تونس ومصر، أن عليهم الاستمرار في الاحتجاج، وعدم التوقف في منتصف الطريق، حتى تتحقق مطالبهم، لذلك من المرجح أن يقع مزيد من التظاهرات الاحتجاجية، وسيزداد تعنت الحكم وأجهزته. وقد تأخذ الأمور منحى يرحل فيه رموز الحكم بشكل طوعي، وبما يقلص عدد الضحايا ويقلص الخسائر، مثلما فعل الملك إدريس السنوسي عام 1969 عندما علم بأنباء الانقلاب العسكري، أو قد تمتد الحركة الاحتجاجية إلى مختلف أنحاء ليبيا، وبشكل يجبر رأس الحكم وأسرته على الخروج إلى إحدى الدول المجاورة تجنباً لملاحقات أو محاكمات لاحقة، وبما يعني انتصار الحراك الاحتجاجي وبقاء ليبيا دولة موحدة تسير في خطى تحقيق الانتقال السلمي للسلطة, وهو ما يتمناه كل غيور على ليبيا وعلى الشعب الليبي.