رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


شعب فقير.. لكنه ذكي

خلال الثورة المصرية على نظام حسني مبارك, وفي أكثر من برنامج تلفزيوني, ترددت عبارة أن الشعب المصري شعب فقير لكنه ذكي، وذكر هذه العبارة الدكتور محمد البرادعي كما ذكرها آخرون. استوقفتني هذه العبارة متأملاً فيها ولست مشككاً فيها, فأنا ممن تتلمذ على الأساتذة المصريين في مراحل الدراسة المتعددة في التعليم العام حتى المرحلة الجامعية رغم أن مدرسي المرحلة الزمنية المتأخرة, وبالذات في مرحلة حكم مبارك لم يكونوا بنفس مستوى ما قبلها, حيث إن مستوى التأهيل أقل, ما غَيَّر الصورة الذهنية البراقة نحو الإخوة المصريين, حتى إن الذين تظاهروا في ميدان التحرير وغيره عبروا عن هذا الشعور, حيث ذكروا أن معاملة الآخرين لهم قد تغيرت للأسوأ.
الشواهد على ذكاء الإنسان العربي الفطري كثيرة, ولست في حاجة إلى التذكير بها, كما أن ذكاء المصريين شواهده كثيرة من خلال المواقع التي يحتلونها في كثير من الميادين على مستوى العالم أجمع، واحتلالهم مناصب قيادية، وظهور علماء بارزين أسهموا في إمداد الحضارة العالمية بالكثير من العطاءات العلمية المتميزة. لقد اتخذت الثورة المصرية الحديثة كحالة تحتاج إلى الدراسة وفق منهج دراسة الحالة بحثاً عن المؤشرات الدالة على توظيف الذكاء الفطري لدى المصريين في تحركاتهم ضد النظام رغم حالة الفقر التي تطحن 40 في المائة من الشعب, الذين يقعون تحت خط الفقر, إضافة إلى حالة الاستبداد والكبت التي خيمت على شعب بأكمله لمدة تزيد على 30 عاماً.
في أدبيات علم النفس، تصنف الإرادة على أنها خاصية من خصائص البناء العقلي للفرد، يتم بناؤها وتدريب الفرد عليها منذ الصغر, رغم أن فريقاً آخر من علماء النفس يصنف الإرادة على أنها خاصية من خصائص الشخصية, وبغض النظر عن الاختلاف في التصنيف, يتضح أن هذه الخاصية وجدت لدى الشعب المصري, خاصة الشباب منهم, رغم أنهم يواجهون نظاماً لا يعرف إلا العنف والجبروت ومصادرة حرية الآخرين من أجل تحقيق أهداف الاستمرار في السلطة وسرقة خيرات الوطن.
في مقابلة مع بعض شباب الثورة ذكروا أنهم بدأوا التحضير لهذه الثورة منذ فترة, وقاموا بعمل بروفات في ميدان التحرير, ما يؤكد أن التفكير المنظم, وهذا أحد شواهد الذكاء الذي عبر عنه البرادعي وغيره من المتحدثين في الفضائيات, كما أن توظيف وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال من فيسبوك وتويتر والجوال أحدث تفاعلاً قوياً من قبل عموم الشعب المصري, الذي وجد في دعوة الشباب للتظاهر فرصة للتعبير عن مشاعره وظروفه الحياتية المتردية والكبت الذي يعانيه على مدى 30 سنة. القدرة على جذب الناس والتأثير فيهم وحسن تدبيرهم والتعامل معهم هي أحد أنواع الذكاء, والمعروف بالذكاء الاجتماعي, وهذا ما يحسب لشباب مصر الذين تمكنوا من إقناع الشارع المصري بصدقهم وشفافية رغبتهم في إحداث التغيير الذي يحفظ للناس كرامتهم.
تنوع أنشطة التظاهر ومراعاتها التغيرات على مستوى الحكومة سياسياً وأمنياً كان سمة بارزة أدركها الجميع, حيث رفعت شعارات معبرة عن المطالب الشعبية ومظهرة لمساوئ النظام وممارساته القمعية, وذلك بهدف تأكيد الصورة السلبية تجاه النظام, التي ترسخت في أذهان المواطنين نتيجة الممارسات الخاطئة عبر ثلاثة عقود. ومارس المتظاهرون أقصى درجات الوعي والانضباط والتعاون مع القوات المسلحة وإشعارها بقرب الشعب منها وقربها منه, حيث رددوا عبارة الشعب والجيش يد واحدة, كما قاموا بتنظيم ميدان التحرير والتأكد من عدم تسلل من قد يسيء للمظاهرة. أما نظافة المكان فكان مثالاً حياً على التحرك الحضاري والحرص على الوطن, الذي تأكد أيضاً من خلال تأمين الشباب المتظاهر المتحف الوطني وتشكيل لجان اجتماعية لحماية الأحياء والمنازل من الفوضويين والبلطجية الذين أطلق سراحهم ليعيثوا في البلاد فساداً بهدف إثارة الرعب لدى الناس.
الأهازيج والأغاني الوطنية المثيرة للحماس كانت من العلامات البارزة التي ظهر التفاعل معها من قبل الناس, ما أعطى المظاهرات قوة كان من شأنها تفجير الطاقات والكوامن المكبوتة نتيجة الخوف والاستبداد الذي يمارس بحق كل من يفكر خلاف ما يريد النظام, حتى إن الأهازيج تأتي معظمها بصورة عفوية حسب الظروف والتغيرات التي تحدث على أرض الواقع سياسياً وأمنياً.
المناورة وتغيير التكتيكات من قبل المتظاهرين كانت إحدى الخصائص التي برزت, حيث حاصر المتظاهرون التلفزيون والإذاعة ومجلس الوزراء والشورى ومجلس الشعب, إضافة إلى محاصرة قصر القبة، ومن ثم قصر الرئاسة في مصر الجديدة. إن استخدام النكتة للتسلية وكذلك لتشويه صورة النظام وشحذ الهمم نحوه, إضافة إلى التحلي بالصبر، وطول النفس والتحمل والقدرة على امتصاص آثار ممارسات النظام القمعية, كما حدث في معركة الجحوش, كانت ملمحاً بارزاً ظهر في أثناء المظاهرات, ما يؤكد تمتع الشعب المصري بالذكاء ليسقط رأس النظام في المستنقع الذي صنعه لنفسه, لكن تحقيق هدف هذه الثورة مرهون بالتعامل مع ما بعد الخطوة الأولى بحذر وذكاء حتى لا تأتي الفكرة متأخرة بعد السكرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي