القادة الجدد للقطاع الحكومي

هناك حقيقة لا يختلف عليها اثنان، وهي أنه لا يمكن أن تحقق الدول التقدم الاقتصادي والتكنولوجي المطلوب دون توافر العوامل الأساسية التالية: تعليم على مستوى عال، وكوادر وطنية مخلصة ومبدعة، وجهاز حكومي على مستوى عال من الكفاءة. وتلاحظون أنني لم أشر هنا إلى الموارد المالية، لأن توافر العناصر الثلاثة التي أشرت إليها كفيل بأن يتخطى جميع الصعوبات المتعلقة بتوافر الموارد، والأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة، لدول أسست تنميتها الاقتصادية دون توافر الموارد المالية والطبيعية اللازمة لذلك، مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة. بل إن الأولى خرجت من أزمة اقتصادية عصفت بها في نهاية التسعينيات الميلادية، لتحول اقتصادها إلى واحد من أكبر 15 اقتصاداً في العالم. لم يكن ما حققته كوريا الجنوبية بسبب ارتفاع المباني التي بنتها، ولكن بسبب الكوادر البشرية التي استثمرت فيها، والكفاءة المتميزة للقطاع الحكومي الكوري.
إذاً كيف يمكن أن نحقق أفضل المستويات التعليمية في العالم، وكيف يكون لدينا أفضل الكوادر في العالم، لكي نستطيع تحقيق ما وصلت إليه هذه الدول؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نحاول الإجابة عنه، فقد نبني أفضل الجامعات، وقد يكون نضع أفضل التجهيزات التعليمية، لكن هذا لن يكون كافياً لرفع المستوى التعليمي لجامعاتنا ولمدارسنا. المسألة أكبر من ذلك، فهي مسألة تتعلق بطريقة التفكير لكل مواطن، ولكل مسؤول. ماذا نريد أن نكون؟ ماذا نريد أن نصل إليه خلال السنوات الخمس المقبلة، وخلال السنوات العشر المقبلة، وخلال الـ 20 سنة المقبلة. هناك حاجة إلى تفكير استراتيجي يحمله كل مواطن وكل مسؤول على حد سواء. ما نراه من تردي الكثير من الخدمات المقدمة رغم إنفاق المبالغ الكبيرة عليها، ومن استهلاك الممتلكات العامة بشكل سريع، على الرغم من أنها تدوم في الدول الأخرى ما يتجاوز الـ 100 عام، كل ذلك نتيجة طبيعية لوجود خلل، هو خلل في التفكير، وخلل في التأهيل، وخلل في المنهج المتبع.
لكن أين يكمن هذا الخلل؟ قد يكمن الخلل في القطاع الحكومي، ومنهج إدارته، وطريقة تعاطيه مع القضايا العامة. فالقطاع الحكومي مثله مثل أي مؤسسة خاصة، له مدخلات تتمثل في قوة العمل لديه التي تدير موارده، ومخرجات تتمثل في الخدمات التي يقدمه والبيئة التشريعية والتنظيمية التي يهيئها لتعزيز التنافسية للاقتصاد. وكلما كان باستطاعة هذا القطاع تحقيق أعلى إنتاج وأكثره كفاءة بأقل المدخلات، دل ذلك على كفاءة الإنتاج لديه. لذلك، فإن التركيز على القطاع الحكومي وزيادة كفاءته، كفيل بأن يحقق لنا الكثير مما نصبو إليه، سواءً على مستوى الفرد أو على مستوى الدولة.
خذ على سبيل أحد الجوانب المهمة في تعزيز الإنتاجية لدى الموظف الحكومي وهي أنظمة الخدمة المدنية، فستجد أن مجملها يركز على تحقيق العدالة وليس الكفاءة في العمل، وهو مظهر واضح من خلال طريقة إدارة عملية التوظيف الحكومي والتقدم الوظيفي بشكل مركزي، وهذا يؤثر بالطبع في الطرق التي توصل إلى المناصب القيادية للدولة. ما نتيجة ذلك، أصبح القطاع الحكومي طاردا للكفاءات الوطنية التي يمكن أن تحقق له أهدافه التنموية. طريقة إدارة العمل في الإدارات الحكومية، وطريقة توجيه العمل من قبل المسؤولين فيها على طريقة سعاة البريد، وطريقة توزيع المسؤوليات كلها تحتاج إلى مراجعة وتقييم، من الجهاز المسؤول عن الخدمة المدنية. القطاع الحكومي أصبح جهازاً مترهلاً، وعبئاً على نفسه، فالإنتاجية منخفضة، والحوافز ضعيفة، وإن أعطيت فهي تعطى للجميع، من يعمل ومن لا يعمل، تطبيقاً لمبدأ العدالة.
أنا أجزم أنه مهما رسمنا من خطط، ومهما وضعنا من استراتيجيات، ومهما أصدرنا من قرارات، فلن يحقق كل ذلك الأهداف التي نصبو إليها من هذه الخطط والاستراتيجيات والقرارات، لماذا؟ لأن هناك خللا فيمن يضع هذه القرارات موضع التنفيذ، وهو الجهاز الحكومي. إذاً الشرط الضروري لتحقيق الأهداف العامة التي وضعتها الدولة في خططها التنموية، يكمن في تعزيز كفاءة الجهاز الحكومي، بالتركيز على رفع إنتاجيته، وتعزيز المسؤوليات فيه، وربط ذلك برقابة صارمة، وأدوات محاسبة، وسلم واضح للثواب والعقاب. والأكثر من ذلك أن نعمل على تهيئة هذا الجهاز لعملية تغيير شاملة، من خلال العمل من الآن على بناء القادة الجدد لهذا التغيير. فالجهاز الحكومي بوضعه الحالي وبالأنظمة والتشريعات التي تحكمه، وبتقاليد وببيئة العمل فيه، لن يجعله قادراً على إنتاج القادة القادمين للمرحلة القادمة. ولا أدل على ذلك من التجارب السابقة بفشل الكثير من قادة قطاع الأعمال الناجحين في قيادة القطاعات الحكومية التي اضطلعوا بقيادتها، والسبب في أنهم يتعاملون مع بيئة مختلفة بشكل جذري عن البيئة التي اعتادوها في القطاع الخاص. وكثيراً ما أتساءل، هل يمكن لهذا الجهاز الحكومي أن يعبر بنا هذه المرحلة الدقيقة من التحول الاقتصادي التي سنشهدها، من كوننا اقتصادا ناميا إلى اقتصاد صاعد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي