بعد ما حدث في مصر وتونس.. أين هي مؤسسات رصد التحولات والتغيرات؟
فاجأ الحدث المصري، وقبله الحدث التونسي، مختلف التوقعات والتحليلات والتنبؤات في جميع بلدان العالم، سواء في الولايات المتحدة ومعها البلدان الأوروبية أم في البلدان العربية وسواها. ولعل هذين الحدثين، اللذين أسفرا عن سقوط نظامين تسلطيين راسخين، أثبتا قصر ما قدمته مراكز ومؤسسات رصد التحولات والمتغيرات التابعة للأنظمة العربية، وتلك التي تنتشر في البلدان الغربية وتقدم تقاريرها ودراساتها لأصحاب القرار وصناعه.
تهافت الثقافوية
بقدر ما فاجأت أحداث تونس ومصر المراقبين والباحثين العرب، من حيث تحول كل منها من حركة احتجاجية إلى ثورة سلمية وصلت ارتداداتها إلى العديد من البلاد العربية الأخرى، فإن جميع المراقبين والباحثين الغربيين لم يتوقعوا حدوثها، فوقفوا مشدوهين وعاجزين عن فهم الحركات الاحتجاجية التي شهدتها - ولا تزال تشهدها - عواصم ومدن عربية عديدة، بل ولم يخفِ الرئيس الأمريكي باراك أُوباما امتعاضه من فشل وكالة الاستخبارات المركزيةِ الأمريكيّة في توقع حدوث الثورتين التونسية والمصرية، الأمر الذي يشير إلى عجز مختلف مؤسسات الرصد والضبط والمراقبة عن توقع الحراك الاجتماعي في البلدان العربية، خصوصا وأن تقارير تلك المؤسسات سوّقت على مدى سنوات طويلة أفكارا ونظريات ثقافوية، أجمعت - على الأقل في معظمها - على أن المجتمعات العربية تشكل حالة خاصة تختلف عن جميع المجتمعات الأخرى، وأن الشعوب العربية لها قوانين تحول وتطور لا تشارك بها قوانين التحول والتطور المطبقة على الشعوب الأخرى، وأطلقت على ذلك اسم "الاستثناء العربي". وعليه، فإن ما جرى في كل من: تونس ومصر ضرب عرض الحائط بكل المقولات الثقافوية التي كانت تتحدث عن "الاستثناء" أو "الاستعصاء" العربي حيال الديموقراطية وسواها، وأسالت حبرا كثيرا في الكتابة عن الخنوع والذل، بل والرضا العربي بالاستبداد والمستبدين، والاستئناس بالظلم والظالمين.
ولا شك في أنه سيكتب عن الثورتين المصريّة والتونسية كثير من الدراسات والأبحاث والمؤلفات، وستشكلان مادة بحث ودراسة لسنوات عديدة قادمة؛ بغية معرفة أسبابها وأسلوبها وتداعياتها وإرهاصاتها، ومعرفة أدق تفاصيلها، وبالأخص معرفة مكوناتها وشعاراتها وأغانيها وأسباب نجاحها.
وفيما تتواتر التحليلات والدراسات العربية والدولية الساعية إلى معرفة دوافع وأبعاد الثورتين، التونسية والمصرية، فإن كثيرا من التعجل والقصور أصاب القسم الأعظم منها؛ نظرا لصدورها عن منطق الأدلجة، الذي ثبت تقادمه وبطلانه في فهم الأحداث وتفسيرها بعيدا عن الخطابات المتكلسة للقوى والأحزاب العربية، التي برهنت الأحداث تجاوزتها وبعدها عن الواقع في مصر وفي تونس وسائر البلدان العربية الأخرى. يضاف إلى ذلك غلبة السمة التبريرية على كتابات الأكاديميين الذين يعملون في مراكز الأبحاث الأمريكية والأوروبية، وكذلك العربية، حيث راح بعض الكتاب المصريين يعزفون على وتر الشوفينية المصرية وخصوصية المصريين بالإحالة إلى النزعة الفرعونية القديمة، الساعية إلى فصل مصر عن فضائها الإقليمي والحضاري. كما أن بعض الكتاب والمحللين لجأ إلى تمجيد وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، خصوصا "الفيس بوك" و"تويتر"، والتضخيم من دورها في الحراك الاحتجاجي في مصر، وبشكل خلق مجموعات تمردت على جميع الأبويات والأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية. ولا شك في أن الشباب المصري هو من قاد الأحداث التي أفضت إلى قيام الثورة، لكن الشعب المصري بمختلف فئاته وتكويناته وقواه شارك فيها بقوة، الأمر الذي أكسبها زخمها وقوتها. وإن كان الشباب المصري يعرف ما يريد، إلا أنه لم يتنكر للكبار، بل استفاد من خبراتهم وشكل معهم مختلف لجان التنسيق.
ولعل المبنى الأهم الذي نهضت عليه الثورة المصرية هو الشباب بمختلف مشاربه واهتماماته، لكن الحدث المصري عبّر عن لحظة تحوّل من منظومة سياسية وخطابية وأخلاقيّة قديمة ومحافظة، مدارها القمع والضبط والمراقبة والملاحقة، إلى منظومة جديدة أكثر انعتاقا، وأكدت ضرورة إنزال الأفكار الكليانية والشمولية من عليائها وغطرستها، والتمرد على مختلف الأطر المنهجية والمقولات الحتمية والشمولية، المدعية للشرعية المطلقة في جميع المجالات، والصالحة لكل مكان وزمان. كما أكدت أن الأنظمة العربية لم تتمكن من إخضاع مختلف الأفراد والجماعات بصورة كاملة لقوانين النهب والفساد الذي مارسته على مدار عدة عقود من حكمها، فبقيت الكتل السكانية التي نجدها اليوم موزعة على هوامش المدن والضواحي، تنسكب في كل لحظة، وتفكك حواجز القياس وحدوده. وعادة ما يبني حراك جماعات الشباب فضاءات جديدة، قد تفضي أرضياته إلى إيجاد أماكن إقامة جديدة. لكن الحركة المستقلة عن التنظيمات والمؤسسات القائمة هي التي تحدد المكان المناسب للجماعات المتضررة من نظم الاستبداد والفساد في البلدان العربية.
ذلك أنه ثمة جغرافية جديدة توجدها الجماعات البشرية المستلبة، بوصفها تمثل التدفقات الإنتاجية للأجساد، وذلك بعد أن أصبحت المدن العربية أشبه بخزانات بشرية كبرى، حيّة ومحرومة، وتشبه كثيرا قاطرات التداول والاستعمال والاستغلال.
عجز المؤسسات
بالرغم من الهالة الكبيرة التي أحيطت بالمؤسسات البحثية ومراكز رصد التحولات والمتغيرات في الولايات المتحدة ومعها سائر البلدان الغربية، فإن الواقع المعاش في البلدان العربية يختزن مكنونات وطاقات تتفجر في أشكال من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي قمع في أكثر من مرة، وكان يتمخض عن أزمة عاصفة أتثبت في كل مرة وجود قوى حية تنشد التغيير نحو الأفضل، لكن القمع كان أكبر، ومع قمع الحراك كان التسلط يزداد والظلم يكثر. ولم يكن عالم المؤسسات البحثية والرصدية يفتقد إلى المنهجية اللازمة، لكن النظرة الثقافوية والعنصرية هي الغالبة، وكانت تحج مفاعيل ومسببات الحراك العربي، الأمر الذي عبر عن مشكلة بنيوية في بلداننا التي كانت ترفض التغيير والإصلاح، وتحاول الالتفاف على المطالب الشعبية مع كل أزمة وعاصفة تغيير.
وأثبتت كل من ثورة مصر وثورة تونس أن مراكز البحث العربية التابعة للأنظمة عاجزة عن قراءة واقع بلداننا بشكل صحيح وواقعي، والسبب في ذلك يعود إلى أن معظمها تابعة للجهات الأمنية والاستخباراتية في الدرجة الأولى أو تعمل لصالحها، حيث تكتب تقارير ترضى عنها تلك الجهات التي لا تعرف سوى المعالجة الأمنية القمعية حيال أي حراك اجتماعي وسياسي، وتعتقد أنها بامتلاكها وسائل القمع والقهر قادرة على كبت أي تحرك في شوارع بلدانها، وأنها بذلك تضمن بقاء السلطة إلى الأبد. أما المؤسسات والمراكز التابعة للجامعات، فإن السمة الأكاديمية غالبة عليها، وهي بعيدة عن واقع الحياة الاجتماعية في البلدان العربية، وتستند إلى الأرقام والمعادلات الرسمية المطروحة، لذلك فوجئت جميع المراكز والمؤسسات مما حدث في تونس ومصر، ولم تكن تتوقع أن ينتفض الشعب المكبوت والمقموع، ويقدم مثالا للتضحية بكل ما لديه كي يحقق طموحاته التي يسعى إليها في العيش بكرامة ومن دون خوف، وأن يحقق مواطَنَته، بما تقتضيه من حقوق وواجبات، والأهم هو أن الشعب وقف شامخا وأعزل دون سلاح، وقدم مثالا للحراك المنظم والسلمي، ولم يتوانَ عن امتلاك مختلف سبل الصمود والمقاومة المدنية والتصميم على تحقيق أهدافه ومطالبه. والملاحظ هو أنه وبعد نجاح الثورة التونسية في إسقاط النظام التونسي، فإن إرهاصاتها وصلت سريعا إلى مصر والجزائر واليمن والأردن وسواها، فأصاب الخوف الأنظمة القمعية من وصول عدوى ما جرى في تونس إلى بلدانهم، لكن بعض العاملين في مراكز الأبحاث والدراسات لم يستوعبوا ما جرى، واعتقد بعضهم، مثلا، أنه لا يمكن تكرار السيناريو التونسي في مصر، وأرجعوه لعدة اعتبارات. أولها ديموغرافية؛ إذ إن عدد سكان تونس هو عشرة ملايين نسمة في حين أن عدد سكان مصر 85 مليون نسمة، وربما "تشعر شريحة منهم بالغضب تجاه النظام السياسي، ولكن الغالبية لأسباب شتى تشعر أن هذا النظام يحميها من المغامرات الخارجية المنتشرة بين تيارات المعارضة". كما زعم أحد المديرين السابقين لمركز الأهرام للدراسات أن النظام المصري "يقدم معادلة مقبولة ما بين توجهات النمو، واتجاهات التوزيع لمن هم أقل حظا في المجتمع يظهر في الدعم الواسع والبطاقات التموينية والتعليم المجاني وغيره مما لم يكن متوافرا لا في تونس ولا في كثير من الدول العربية الأخرى". واعتقد بأن اتساع الرقعة الجغرافية لمصر بعكس تونس، فرض تنوعا موازيا في مدى التأييد أو المعارضة للحكومة المصرية، إضافة إلى ما حدث في تونس من انتفاضة ضد رئيس الدولة قادتها الطبقة الوسطى التي تعرضت أحوالها للتدهور بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، في حين أن الطبقة الوسطى في مصر ما زالت هي رمانة الميزان وتمثل نحو 62 في المائة من المجتمع المصري، ومن ثم فليس لديها مبررات قوية للخروج على النظام المصري حسبما كان يعتقد. وفي المقابل، وتعليقا على ما جرى في مصر يوم 25 من كانون الثاني (يناير) من الشهر الماضي، نبه جون الترمان خبير شؤون الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن وهو مؤسسة بحثية معروفة، إلى أنه "من الخطر استباق الأحداث، خاصة حين نتحدث عن دولة علاقتك بها مهمة جدا وحيث قام زعيمها بعدد من التضحيات من أجل الولايات المتحدة". وبرهنت أحداث الثورة المصرية بطلان ما قدمته مراكز البحث والرصد التابعة للأنظمة العربية، وكذلك الأجنبية لأن العالم يتغير دوماً من الزمن، وليس هناك استثناء لأي مجتمع أو أي شعب في عالم اليوم.
لا شك في أهمية مراكز الدراسات والأبحاث، وكذلك مراكز البحث والتطوير العلمي، فهي تمتلك أهميتها القيادية والريادية ودورها في صناعة الأفكار والأهداف والوسائل التي تخص السياسات، خصوصا إن كانت تتمتع باستقلاليتها المفقودة في بلداننا العربية، وتمتلك قدرا منها في الولايات المتحدة وسائر الدول الأوروبية.
وقد تحدث تقرير صدر في عام 2003 لمؤسسة "راند" الأمريكية، المتخصصة في مجال البحوث السياسية والاقتصادية، عن ثورة المعلومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأشار إلى أن الأنظمة العربية تقوم بالسيطرة على المعلومات واستخدامها لتحقيق أهدافها، وهو أمر قامت به الأنظمة الحاكمة من خلال استخدام الإعلام المرئي والمسموع في توجيه الرأي العام إلى ما ترغبه، إلا أنها لم تتمكن من الاستمرار في ذلك بعد انتشار الأقمار الصناعية وفقدان السيطرة على ما يبث خارجيا، فتوجهت السيطرة إلى الوسائل الجديدة وعلى رأسها الإنترنت. وقد قامت الحكومات في مصر وتونس بممارسات معادية لتكنولوجيا المعلومات، على الرغم من العمل على انتشارها. وحاولت الأنظمة أن تبث الخوف والعجز والخضوع واليأس لدى الإنسان العربي؛ فصادرت قراره وحجزت حريته، لا بل أخضعته لسطوتها ودجّنـته، فغاب الفرد الحر بين جموع "الرعايا" أو "الجماهير" الساكنة على الدوام، والمتحركة أحياناحسبما تريده الأنظمة. وتحول الإنسان العربي، بخوفه وبعجزه وبتقبله للخضوع، مادة للبحث عند الأكاديميين والباحثين في المراكز والمؤسسات المتخصصة في البلدان الأوروبيّة والولايات المتحدة. لكن تلك المراكز لم تتوقع أن يخرج الإنسان العربي من ضباب الاستبداد والاضطراب كي يقارع الأنظمة الراسخة، بعد أن اكتسب القدرة اللازمة لتأكيد استقلاليته وراح يسخر إمكانيات التواصل الاجتماعي الذي توفره التقنيات الحديثة كي يعبر عن ذاته عبر أرضنات بالغة الاتساع ومترامية الأطراف.