المنعطف الحاد للعولمة
في مقال الأسبوع الماضي، تطرقت إلى التحديات المختلفة التي تواجه الاقتصاد العالمي، وهي تحديات كثيرة تختلف من دولة إلى أخرى، ومن إقليم إلى إقليم آخر. هذه التحديات تنذر بتغير كبير في المفاهيم الاقتصادية خصوصاً في إطار العلاقات الاقتصادية الدولية. فقد تميز العقدان الأخيران بغلبة مفاهيم العولمة الاقتصادية على كل شيء، وسيادة مفاهيم التكتلات الاقتصادية، والعلاقات الاقتصادية المتعددة الأطراف من خلال الاندماج تحت مظلة منظمات دولية محددة، كمنظمة التجارة العالمية، أو في إطار اتفاقيات إقليمية. لكن هذه التحديات التي أشرت إليها في مقال الأسبوع الماضي، تنذر بتغير في هذه المفاهيم، والتركيز على مفهوم سيادة الدولة، واستقلالية قرارها الاقتصادي، كما قد تؤدي إلى اختلاف في أنماط الاستهلاك، وارتفاع في تكاليف التمويل، وأنماط اقتصادية لم نشهدها منذ زمن، مثل البطالة المرتفعة، والتضخم المرتفع، والاتجاه للإعانات، وأنواع جديدة من الحمائية. وسأتطرق هنا إلى ثلاثة من المظاهر التي توحي بهذا النوع من التغير الذي أشرت إليه.
المظهر الأول، هو أن الأزمة المالية والاقتصادية الحالية التي بدأت في الولايات المتحدة خلقت نوعاً من الاضطراب في الكثير من المفاهيم الاقتصادية، خصوصاً ما يتعلق منها بالمخاطر وبالأصول المالية. فقد كان العقدان الأخيران فرصة كبيرة للمؤسسات المالية لابتداع أنواع كثيرة من طرق التمويل، ساهمت بشكل كبير في تحسين مستويات المعيشة للأفراد، مما ساهم في زيادة استهلاكهم، ومن ثم في تعزيز النمو الاقتصادي العالمي. العالم اليوم يشهد مظاهر اقتصادية مختلفة عما شهده في العقدين الأخيرين اللذين تميزا بانخفاض تكلفة التمويل والبطالة ومعدلات التضخم. فاليوم يشهد العالم معدلات بطالة مرتفعة خصوصاً في الدول المتقدمة، وقد يستمر هذا الوضع مدة طويلة، كما أن أسعار الفائدة لا يتوقع أن تستمر على هذا الحال. بل إن هناك توقعات بعهد مختلف سيتميز بارتفاع تكلفة رأس المال، وذلك حسب مايكل سبنس الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001. فتوجه دول الفائض مثل الصين والهند للإنفاق بشكل كبير على تحسين أوضاع المعيشة في الضواحي، بالإنفاق على البنى التحتية هناك، وتكاليف التكيف مع متطلبات التغير المناخي، وغير من ذلك من العوامل المستجدة، تدلل على أن هناك اتجاها لارتفاع تكاليف التمويل في المستقبل. وأخيراً هناك اتجاه كبير لارتفاع الضغوط التضخمية في العالم خصوصاً في مجال الغذاء.
المظهر الآخر يتعلق بالنظرة إلى العلاقات الاقتصادية متعددة الأطراف، والتي تتعرض لنقد كبير من حيث جدواها على مستوى الأفراد. خذ على سبيل المثال حالة اليونان، والضغوط التي واجهتها، ليس من الاتحاد الأوروبي فقط، ولكن من العالم ككل. فلو كان لليونان القدرة على اتخاذ قرار التوسع في إصدار الديون بشكل منفرد، لكان من السهل عليها تدوير الديون المتراكمة عليها، والقيام بعملية الإصلاح الاقتصادي على مدى زمني أطول دون التعرض لضغوط الاتحاد الأوروبي التي ألزمتها بتسوية أوضاعها المالية خلال فترة وجيزة. ردة الفعل المحلية الكبيرة على ما حدث في اليونان نتيجتها الطبيعية انطباع عدائي للتكتلات الاقتصادية التي كانت سبباً في خسارة الكثير من المواطنين هناك لمدخراتهم. أضف إلى ذلك ما حدث في إيرلندا وإسبانيا والبرتغال، كل ذلك سيساهم في تغذية العداء للتكتلات الاقتصادية، خصوصاً في أوساط الشباب الذين سيكونون الضحية الكبرى للتسوية المالية التي تفرضها سلطة التكتل الاقتصادي.
المظهر الأخير يتعلق بالنظرة إلى الإصلاحات الاقتصادية التي تتبناها الدول، خصوصاً تلك المتعلقة بإصلاحات السوق، والتي تدعو إليها المؤسسات الدولية المختلفة، وكانت أحد المظاهر الرئيسة للعولمة الاقتصادية. المشكلة الأساسية في هذه الإصلاحات، أن تكاليفها كبيرة على الشعوب، بينما فوائدها محدودة على المدى القصير، والمستفيدون منها أيضاً محدودون في فئات معينة من هذه الشعوب. هذا بالطبع سيخلق مشاعر معادية لهذه الإصلاحات، وسيساهم في التوسع في الكثير من المظاهر الاقتصادية غير الكفؤة، كالإعانات، والأجور غير المرتبطة بالإنتاجية، وغير ذلك من المظاهر التي قد تحد من إنتاجية الاقتصادات ونموها، وقد تعيدها إلى الوراء سنين عديدة.