رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


أيها المستثمرون .. انتبهوا لهذه الضوابط

الاستثمار يعني تنمية المال وتكثيره بالطرق المباحة، من بيع وإجارة وتصدير وتوريد وخدمات وصيانة ومقاولات وعقارات، ويسميه بعض الفقهاء (استنماء) وهذه الكلمة توحي بآلة الاستنماء، وأنها تكون عبر طرق وسائل معينة، والفعل (تنمية)، فينتج عنه الثمرة، وهي (النماء). والشريعة الإسلامية دعت إلى الاستثمار عبر نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) وقوله: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه..) وفي مسند أحمد أن رجلاً سأل النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ فقال: (أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) فكشف له النبي ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ عن بعض وسائل الاستثمار، وهي عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وهاتان الوسيلتان تشكلان اليوم محور الاستثمار الحقيقي، فالعمل باليد تقوم عليه المصانع الحربية ومصانع السيارات والطائرات والصناعات الإلكترونية والملبوسات بأشكالها المختلفة، والإنتاج الزراعي... إلخ، والتقنية الحديثة وإن دخلت أغلب الصنائع إلا أن هذه التقنية لا تستطيع الاستغناء عن سواعد العاملين في المصانع وغيرها. أما البيع المصرح به في الحديث الشريف فهو لا يزال اليوم يملك نصيب الأسد بين أدوات الاستثمار الحديثة. ويبلغ اهتمام الشارع مداه حين يأمر بغرس الأشجار في أحلك الظروف، حتى عند العد التنازلي لقيام الساعة، ولا يخفى أن الغرس قد يكون لتحقيق الاكتفاء الذاتي من ثمر الشجر، وقد يكون لغرض الاستثمار، وهذا يعطي بعدا استثماريا عميقا، ويصنع طاقة لا تعرف الكلل ولا الملل، ففي مسند أحمد (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ــــ شتلة نخل ـــ فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر!!)
إن الاستثمار من حيث الأصل مباح شرعا، لكنه قد يتغير حكمه بحسب المقصود، وبحسب الحاجة إليه، فالاستثمار لغرض محرم كبيع السلاح في وقت الفتنة يصير الحكم إلى التحريم، والاستثمار لغرض واجب كسد الحاجة الضرورية للأهل والأولاد يصير الحكم إلى الوجوب، ومن القواعد المقررة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، والاستثمار لغرض مندوب إليه كسد حاجة الفقير، ونفع البلد بالمشروعات التي تنعكس عليه إيجابا، سواء من الناحية الصحية أو العلمية أو غيرها يصير الحكم إلى الاستحباب، وهكذا.
إن الشريعة الإسلامية جاءت بتشريع كل ما يحقق مصلحة الفرد ومصلحة العامة، وإذا تعارضت مصلحة الفرد بمصلحة العامة قدمت المصلحة العامة، والمقاصد الشرعية تهدف إلى حماية الضرورات أو الكليات الخمس، وهي ضرورة حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وحفظ المال يكون في صورتين:
أولا: حفظه وجودا، وذلك بتنميته بالطرق المباحة، كما يدل عليه حديث (اتجروا في مال حتى لا تأكله الزكاة)، وبتدويل المال بين الفقراء والأغنياء (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)، وبدفع الزكاة التي تنمي المال... إلخ.
ثانيا: حفظه عدما، بمنع وضعه في يد السفهاء (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) وبمنع كل ما يفوت المال بالسرقة والغصب والغش وغيرها، وتشريع الحدود والتعازير اللازمة للحد منها، كما حمى الشارع المغبون في بيعه، وشرع الخيارات بأنواعها، كخيار العيب والتدليس، وذلك كله لحماية المال.
وبالنظر لأنواع الاستثمار، نجد أنه يتنوع باعتبارات كثيرة، منها:
أولا: يتنوع باعتبار الفرد والجماعة إلى نوعين: استثمار فردي كالبيع والإجارة، واستثمار جماعي كالشركة بأنواعها.
ثانيا: يتنوع باعتبار هوية المستثمر إلى نوعين: استثمار حكومي كما تستثمر مجموعة من مؤسسات الدولة ومنها التأمينات الاجتماعية مثلا، واستثمار أهلي ومنه استثمار المؤسسات والشركات الأهلية.
ثالثا: يتنوع باعتبار جنس المستثمر فيه إلى أنواع: ومنه الاستثمار في النقود كالمتاجرة في العملات، والاستثمار في الأعيان كالمتاجرة في السيارات والأدوات المنزلية، ومنه الاستثمار في المنافع كتأجير العمارات والمنازل السكنية والمحال التجارية، والاستثمار في الخدمات كالاستثمار في خدمات الاتصالات والصيانة... إلخ.
رابعا: يتنوع باعتبار انعكاسه الإيجابي على اقتصاد الفرد والدولة إلى نوعين: استثمار حقيقي كالاستثمار في الزراعة والصناعة والعقارات والمقاولات، واستثمار غير حقيقي كالمضاربة على فروق الأسعار في الأسواق المالية.
لقد تميز الاستثمار الإسلامي على غيره بأنه لم يعتبر المال غاية يسعى إليه الفرد ــــ كما فعلت طوائف ومذاهب شتى ــــ وإنما اعتبر المال وسيلة لتحصيل الضروريات والحاجيات والكماليات، وهذا الهدف نابع من كون المالك الحقيقي للمال في الإسلام هو الله، وليس الإنسان، فالإنسان مستخلف فيه (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)، وبالتالي فليس المسلم حرا ليستثمر المال بأي طريق ولو من حرام، كما أنه ليس بحر لينفقه في أي مجال كان ولو في حرام، فالله تعالى الأعلم بمصالح خلقه، ولذا هذب المسلم ليستخدم المال الأسلوب الأمثل؛ لئلا يشتط به سلوكه فيضر به نفسه أو المجتمع، ومن هنا اهتم الإسلام بأمرين رئيسيين:
الأول: وضع مبادئ لأخلاقيات المستثمر المسلم.
الثاني: وضع ضوابط للاستثمار المباح.
فأما أخلاقيات المستثمر المسلم: فقد أمره الشارع بالصدق والأمانة، وفي الترمذي: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين) فلا يكذب، ولا يخون، ففي الصحيح: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وذكر منهم: المنفق سلعته بالحلف الكاذب) كما أمره بالوفاء بالعقود (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود..) وأمره بالسماحة في المعاملة، وفي البخاري: (رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى..) ولو تحقق خلق السماحة في سلوك المستثمر لنضبت كل أساليب الاحتكار والكذب والغش في المعاملة..، كما أمره الشارع بأن يكون واضحا في تعاملاته، أو ما يعبر عنه اليوم بعنصر الشفافية في المعاملة، ففي الصحيحين: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) وهذا أصل في باب ما يسمى اليوم بالحوكمة، كما أمره الشارع بتلمس الكسب الطيب ''يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم..''، ولا يكون الكسب طيبا إلا بتحقيق العدالة في المعاملة، ولهذا قرر الله تعالى هذا المبدأ في آيات عدة، منها ''ولا تبخسوا الناس أشياءهم..'' وينتظم مبدأ العدالة في صور، من أبرزها: أن الغنم بالغرم، فلا غنم بلا غرم، ولا ربح لما لا يضمنه الرابح (الخراج بالضمان)، ولهذا نهى الشارع عن ربح ما لا يضمن، ومن هنا اشترط الشارع ملك المبيع، واشترط القبض، لحكم عديدة منها تحقيق مبدأ العدالة، ومن صور العدالة أن الكسب والربح لا يكون إلا بالجهد، فلا كسب بلا جهد ولا مخاطرة، والإسلام هنا وسط، فلم يسمح بتجارة بلا مخاطرة كالربا، ولم يسمح بتجارة بمخاطرة مطلقة كالقمار، وإنما لا بد من مطلق المخاطرة، كما في البيع والإجارة وغيرها، وبوجود مخاطرة بين طرفي المعاملة تتوزع بينهما، كما أنها تسهم في توزيع الشراكة لتخفيف المخاطرة، وفي تحريك السلع في السوق لينتفع بها الجميع، أعني بائعها وحاملها والمحمولة إليه... إلخ.
هذا بالنسبة لأخلاقيات المستثمر المسلم.
أما ضوابط الاستثمار الحلال، فقد وضع الشارع ضوابط عدة، من أبرزها:
أولا: منع الربا بنوعيه: ربا البيوع، وربا الديون ''الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس...''، ومن ذلك القروض البنكية التي تتحقق من ورائها منفعة معينة.
ثانيا: منع القمار ''..إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه..''، ومنه دفع المتسابق مبلغا من المال نظير دخوله في مسابقات سحب على سلعة ما أو سيارة ما، فالمتسابق مقامر، إما غانم أو غارم.
ثالثا: منع الغرر، وفي صحيح مسلم (نهى عن بيع الغرر) ويستثنى اليسير لحاجة، ومن صوره بيع المعدوم كبيع حمل الماشية قبل نشوئه، والمجهول كبيع سلعة أو تأجير شقة بلا رؤية ولا صفة نافية للجهالة، وغير المقدور على تسليمه كبيع حيوان شارد.
رابعا: منع التغرير أو الغش، وفي صحيح مسلم ''من غش فليس مني''، ومن صوره النجش في سوق المزاد، وفي سوق الأسهم، وبيع السلع المغشوشة.
خامسا: منع الإضرار ''لا ضرر ولا ضرار'' ومن صوره احتكار السلع الضرورية والحاجية، وإغراق السوق بسلع معينة بهدف التأثير على الأسعار.
سادسا: منع الاستثمار في السلع المحرمة كالاستثمار في بيع الخمر، وفي الحديث ''لعن الله الخمر.. ثم ذكر وبائعها..''، وكذا ترويج المخدرات، وبيع السلع المقلدة، وبيع الميتة والخنزير... إلخ.
سابعا: منع الاستثمار في منافع أو خدمات محرمة كالاستثمار في مجال الكهانة والدعارة.. وغير ذلك، مما قد يدمر عقائد المجتمع، أو ينسف أخلاقياته، من أجل حفنة من المال.
ونلحظ مما تقدم: أن الإسلام راعى مصلحة الفرد والجماعة في تشريعه، ومنها مصلحة الفرد والمجتمع في مجال الاستثمار، فلم يخنق الاستثمار ويضيق مجاله بل اعتبر الأصل في المعاملات الحل، ولم يفتح المجال على مصراعيه بل وضع قواعد وأصول تنظم سوق الاستثمار، وهذا بدوره يصنع سوقا استثمارية منظمة طيبة، ينعم بها المجتمع بأسره، دون أن يستخدم السوق لمصلحة التاجر على حساب مصلحة الفقير أو المجتمع ككل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي