تشذيب المدن المترهلة
قام عالم الاقتصاد ديفيد ريكاردو بتقديم نظريته الشهيرة ''الميزة النسبية'' competitive advantages، التي يرى فيها أن الدول إذا أرادت أن تستغل موارد الأرض استغلالا مثاليا، فما عليها سوى الوصول إلى ما سماه بـ ''الميزة النسبية''. يرى ريكاردو أن كل دولة لديها ميزة نسبية تتميز بها عن غيرها، لذا يقترح أن تتخصص كل دولة في إنتاج السلع التي تحتوى على أعلى ميزة نسبية وتترك بقية السلع للدول أخرى. فالهند مثلا يمكن أن تتخصص في إنتاج الشاي، واليابان في الحاسبات وإنجلترا تختص بصناعة السيارات، والبرازيل في إنتاج القهوة، وهكذا ثم تقوم كل دولة بمقايضة الأخرى، وبذا تتحقق الميزة النسبية والاستغلال الأمثل لموارد الأرض. هذه فكرة مبسطة عن هذه النظرية ونترك الولوج بعمق في تفاصيلها لأهل الاختصاص.
والهدف من الاسترشاد بنظرية ''الميزة النسبية'' الاستعانة بها في التغلب على مشكلة ترهل المدن الرئيسة وتمركز الخدمات والوزارات والهيئات في منطقة واحدة. فكلنا نلاحظ تكدس الوزارات والهيئات في بعض المدن الرئيسة وأهمها مدينة الرياض، ولو استمر الوضع بهذا النمو المتسارع فقد تتصل المدن ببعضها مما يصعب إدارتها. المدن الرئيسة وخصوصا مدينة الرياض تعاني من الاختناقات المرورية، والتضخم السكاني، والاتساع العمراني الذي خرج عن السيطرة، كما تعاني الأمرين عند انعقاد المؤتمرات الدولية والزيارات الرسمية والوفود الخارجية، مما يلجئ المسؤولين إلى تعطيل بعض المرافق الحيوية لعدة أيام متتابعة خلال العام، وهذا بدوره يؤدي إلى خسائر مادية ضخمة وتعطيل كثير من الأعمال. كما أن هناك مشكلة أخرى تطل برأسها بين الفينة والأخرى، وهي مشكلة شح وانقطاع المياه. تخيل معي لو انقطعت المياه عن مدينة ضخمة كمدينة الرياض لأي سبب من الأسباب .. كيف سيكون الحال؟
الدول في بداية تكوينها تحاول أن تمركز هيئاتها ووزاراتها في مدينة واحدة لأسباب أمنية، وسياسية، واقتصادية إلا أن بلادنا تخطت هذه المرحلة وهي ترفل في مرحلة الاستقرار الاقتصادي الذي تعقبه الرفاهية الاقتصادية، وفي هذه المرحلة لا يصح أن ننظر إلى الدولة في صورة مدينة واحدة، خصوصا أن بلادنا تتميز بمناطق متباينة لكل منها ميزة تختلف عن الأخرى، مما يمكننا من الاستفادة القصوى من الميزة النسبية لكل منطقة.
لذا أرى أنه يجب الإسراع ــــ دون عشوائية ــــ إلى ترحيل بعض المصالح والهيئات والوزارات والمجالس والشركات الكبرى من المدن الرئيسة إلى المناطق الأخرى. وما نقل كلية الملك فيصل الجوية من مدية الرياض إلى منطقة حائل إلا خطوة مباركة في الاتجاه الصحيح نحو تشذيب المدن المترهلة، وسنرى كيف سينعكس هذا القرار الرشيد إيجابيا على كل من الرياض وحائل، السؤال فقط هل حائل هي المدينة المناسبة لكلية الطيران العسكري أم لا؟
قبل اتخاذ قرار استراتيجي كهذا يجب أن نتعرف على الميزة النسبية لمناطق المملكة. فبلادنا تضم آلاف الكيلومترات من السواحل، كما تتميز بتباين تضاريسها بين سهول، وجبال، وهضاب، وبها أنواع المناخ المختلفة بين الحار والدفئ والبارد وشديد البرودة، وفيها مناطق صحراوية بين ثابتة ومتحركة ناهيك عن الجزر والأرياف والشلالات. بعض المناطق تتميز بالكثافة السكانية والبعض الآخر تغطيها المساحات الرعوية، والأهم من هذا وذاك احتضانها الأماكن الإسلامية المقدسة.
وكل هذا التباين يشجع على ترحيل المصالح إلى المناطق المناسبة حسب خصائص كل مدينة. فعلى سبيل المثال يمكن أن يُرحل كل ما يخص السياحة من هيئات وإدارات وكليات إلى المنطقة التي لديها ميزة نسبية في السياحة ولا يسمح لأي مدينة أخرى بأن تمارس إدارة السياحة، ولكن ليس معنى هذا أن تكون هذه المدينة حكرا على البرامج والاستثمارات السياحية. فيمكن إقامة البرامج السياحية في جميع المناطق، ولكن الإدارة السياحية من إعداد الخطط وبناء الاستراتيجيات العامة للسياحة، يجب أن تتمركز في المنطقة التي تمتلك الميزة النسبية.
كما يمكن ترحيل وزارة الحج ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإفتاء وما يدور في فلكها من الهيئات واللجان الدعوية والإسلامية وتوعية الجاليات إلى منطقة مكة المكرمة. ويمكن أن ترحل وزارة المياه إلى منطقة تبوك أو القصيم أو أي منطقة يرى متخذ القرار أنها الأنسب، حسب المعلومات المتاحة لأنه يستطيع أن يصل بسهولة إلى دراسة متأنية ومعلومات موثقة إلى الميزة النسبية لكل منطقة وترحل الوزارات والهيئات بناء على ذلك. ولا يمنع من إنشاء فروع في المناطق الأخرى ويمكن أن تعقد الاجتماعات دون الحاجة إلى سفر أعضائها إلى المقر الرئيس عن طريق الاستفادة من التقنية الحديثة.
بهذه الطريقة ستستفيد الجهات والوزارات من المكان المناسب لأداء أعمالها وتتخلص مدينة الرياض من التكدس والهجرة المكثفة للمواطنين والوافدين. وتبقى العاصمة تحمل الرمز السياسي للدولة، أما النواحي التشغيلية فتمارس في مناطق مختلفة، فها هي واشنطن العاصمة عبارة عن مدينة صغيرة تبرعت بها الولايات المجاورة لإقامة العاصمة مهمتها الأساسية التمثيل السياسي للدولة أما الأعمال التشغيلية فمنتشرة في ولايات متفرقة.
إن عملية ترحيل الوزارات والهيئات تحتاج إلى دراسة متأنية ونخشى أن يُتخذ القرار بشكل لم يعط حقه من الدراسة، فمشكلتنا أننا لا نتحرك إلا متأخرين وأكبر مثال على ذلك التوسع في التعليم العالي. بقيت بلادنا حكرا على سبع جامعات لمدة 40 عاما وبين عشية وضحاها تم انتشار التعليم العالي بطريقة غير مدروسة فأصبحنا نمسي على جامعة ونصبح على أخرى وقرار كهذا سيكون له آثار اجتماعية وتربوية وأكاديمية ستظهر لنا قريبا مما قد يضطرنا إلى إغلاق كليات بل جامعات بأكملها. أتمنى أن يُدرس موضوع تشذيب المدن المترهلة بشيء من العقلانية حتى لا نضطر إلى القرارات غير المدروسة.