المشهد المصري: فوضى الهويات وموسم ترتيب الأوراق
تطورات كثيرة حدثت في المشهد المصري منذ يوم الثلاثاء 25/1/2011 وصولاً إلى اليوم، حيث تصاعدت موجة التظاهرات والاحتجاجات الغاضبة في شوارع وساحات مختلف المدن المصرية، وخصوصاً في ساحة ميدان التحرير في القاهرة، وطالبت بتغيير النظام المصري، وبرحيل الرئيس حسني مبارك، إضافة إلى حلّ مجلس الشعب وتشكيل حكومة انتقالية.
وعلى الرغم من أن الرئيس المصري سارع إلى القيام بجملة من التغييرات، تمثلت في تعيين اللواء عمر سليمان نائباً له، وتكليفه بإجراء حوار مع المعارضة، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة الفريق أحمد شفيق، إلا أن هذه المتغيرات لم تلقَ الصدى المطلوب لدى أوساط المحتجين وقوى المعارضة المصرية، وبالتالي فإن مشهد الأحداث يتجه نحو مزيد من التصعيد الاحتجاجي واستمرار التظاهرات ضد النظام المصري.
الأسباب والمؤثرات
تعود أسباب هذه التطورات المتسارعة في المشهد المصري إلى جملة من الأسباب، منها ما تراكم منذ سنوات، بل وعقود طويلة، ولم يلاق أية معالجة أو حل، ومنها ما هو جديد، نشأ من تأثر الشارع المصري برياح التغيير التونسية، التي أفضت إلى الإطاحة بالنظام التونسي.
ويكشف واقع الحال عن أن الحركة الاحتجاجية في مصر لم تهدأ، منذ أكثر من عامين على الأقل، وكانت القوى السياسية المصرية التي تقودها سباقة في المطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية، لكن مطالباتها لم تجد من يلبيها أو يحقق بعضاً منها. وقد وقعت غالبية الشعب المصري تحت ظروف اقتصادية وسياسية قاسية، حيث الفوارق الاجتماعية وصلت إلى أوجها ما بين الأغنياء، الذين لا تصل نسبتهم في مصر إلى أكثر من 5 في المائة، وبين الفقراء الذين يشكلون نسبة كبيرة من الشعب المصري. وعانت غالبية المصريين، إضافة إلى الظروف المعيشية القاسية، الحرمان السياسي وممارسات قمعية وقوانين الطوارئ، فضلاً عن رغبة النظام في توريث الحكم.
الحراك الشبابي
أفرز المشهد المصري عن تبدلات جديدة في مولدات التحركات الشعبية، حيث برز دور الشباب المصري بشكل لافت في توليد وصناعة الأحداث، مثلما برز دور الشباب التونسي في توليد وقيادة الحدث التونسي، الأمر الذي أكد مرة أخرى على دور الشباب في صناعة وقيادة الثورات والأحداث والمتغيرات، لكنه كشف في الوقت نفسه عن عجز الأحزاب السياسية التقليدية وعدم قدرتها على تحريك الشارع والسيطرة عليه، وجعلها تبدو وكأنها تعيش في حيّز بعيد عن هموم الناس ولا يتعلق بواقعهم المعاش، الأمر الذي يفرض عليها نقد ذاتها والقيام بجرد حساب لأدوارها وبرامجها وأساليب عملها. أما الأحزاب السلطوية التي يصل تعداد أنصارها المليون وأكثر فقد كشفت الأحداث هشاشتها وانتهازيتها، وأنها تختفي وتغيب تماماً عن المشهد حين ينزل المحتجون والغاضبون إلى الشوارع والساحات.
والظاهرة اللافتة للنظر هي تكييف الشباب المصري لأدوات التواصل الإلكترونية والمعلوماتية وتسخيرها في خدمة حراكهم، سواء من خلال التحشيد وتصميم الشعارات أم من خلال تحقيق إجماع ورأي عام بعيداً عن قيود ورقابة النظام الحاكم، وبالتالي ظهر دور المجموعات الشبابية بشكل جلي في المشهد المصري، وبالأخص الدور المهم الذي لعبته حركة ''شباب 6 أبريل'' في تنظيم التظاهرات ومختلف فعاليات الانتفاضة، مع العلم أن هذه الحركة السياسية المعارضة ظهرت في عام 2008 إثر الإضراب العام الذي شهدته مصر في السادس من نيسان (أبريل) 2008 بدعوة من عمال غزل المحلة وتضامنت معهم، في ذلك الوقت، أغلب القوى السياسية المصرية. ولا ينتمي أعضاء هذه الحركة الشبابية إلى تيار أو حزب سياسي معين، كونها حرصت على عدم تبني إيديولوجية معينة، وذلك كي تحافظ على التنوع والاختلاف السياسي والإيديولوجي داخلها، إقراراً من قادة شباب الحركة بالتنوع داخل الوحدة، وبما تفرضه ظروف مصر من ضرورات التوحد والائتلاف ونبذ الخلاف والتفرقة. والحاصل هو بروز أجيال جديدة، يحركها قادة من الشباب أنفسهم، لا ينتمون إلى حزب معين، ولا يعتنقون إيديولوجية معينة، وما يحركهم هو الإحساس العميق بالغضب، نظراً لحالة الإحباط واليأس وانعدام الأمل بالمستقبل التي تعصف بهم.
من جهة أخرى، عانى الشباب المصري، ومعه غالبية الشعب المصري، من سطوة المؤسّسات التسلطية والقمعية على مدى عقود عديدة من الزمن، لذلك اندفعت حركتهم الغاضبة في مختلف مدن مصر، وخصوصاً القاهرة، ضد السلطة القامعة. وكانت البداية بالدعوة إلى التظاهر والاحتجاج في يوم الثلاثاء 25/1/2011، ثم تحولت تظاهراتهم إلى حركة عارمة أطاحت بمرتكزات السلطة المصرية. ولم يتوان النظام المصري في إنزال شرطته ومخابراته إلى الشوارع لقمع الحركة الاحتجاجية، حينما شعر وللحظة درامية أن سلطة نظامه أخذت تترنح، وأضحى النظام بكامله على شفير الانهيار.
ويعبر حراك الشباب المصري عن لحظة تحوّل من منظومة سياسية وخطابية وأخلاقيّة قديمة ومحافظة، مدارها القمع والضبط والمراقبة والملاحقة، إلى منظومة جديدة أكثر انعتاقاً، مؤكدة على ضرورة إنزال الأفكار الكليانية والشمولية من عليائها وغطرستها، والتمرد على مختلف الأطر المنهجية والمقولات الحتمية والشمولية، المدعية للشرعية المطلقة في جميع المجالات، والصالحة لكل مكان وزمان. وعليه، يقدم المشهد المصري مثالاً آخر للشعوب العربية، ولشعوب العالم التي ما زالت ترزح تحت نير السلطة الشمولية، في كيفية المواجهة السلمية وحشد طاقات الشباب المتمكن من استخدام تقنيات التواصل في مواجهة تقنيات وأساليب السلطة، الأمر الذي سيفضي إلى انتقال تداعياتها وإرهاصاتها إلى سائر البلدان العربية التواقعة للانعتاق والخلاص من أنظمة التسلط والشمولية.
الحدث والآفاق
طاول الحدث المصري مستويات عديدة من النظام العربي، سياسية وقيمية، ودفع إلى واجهة الحياة العامة جيلاً جديداً من السياسيين والقادة الميدانيين، الذين قادوا ونظموا التظاهرات والاحتجاجات، وشكلوا اللجان الشعبية في الأحياء لمواجهة حالة اللانظام والفوضى، والتصدي للبلطجية والحرامية والعابثين بأمن المصريين وممتلكاتهم وأرواحهم، لذلك لن يكون الحراك المصري مجرَد حركة احتجاج مصرية فقط، بل سيتوج انتفاضة مختلف فئات الشعب المصري، وقد ينتقل صداه إلى عدد من البلدان العربية وغير العربية، والتي خاضت من قبل نضالات ضد الاستعمار وكانت تتطلع إلى الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية.
ومن المهم أن ينكشف المشهد المصري عن عودة النظام والقضاء على حالة الانفلات والفوضى، وذلك أن تبخرت أجهزة الأمن، ثم عادت بشكل خجول. وبقدر ما هناك من رغبة عارمة لدى المصريين في ضرورة إحداث التغيير الديموقراطي بقدر ما هناك من المخاوف من أن تنزلق الأمور إلى ما لا تحمد عقباه. من هنا، فإن آفاق الحل تتجسد في الاعتراف سياسياً وحقوقياً بالواقع المستجد، من خلال تشييد الديموقراطية وإعطاء الجميع حقوق المواطنة الكاملة، على مختلف المستويات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وينبغي لنا أن نعي تماماً الدرس، الذي يفيد بأن ما كان محرماً من قبل قد انكسر، حيث بدأت الشعوب العربية بكسر حاجز الخوف، وبتجاوز المحرمات واجتياز الخطوط الحمراء، وصارت الحاجة ملحة لحوار وطني، هدفه إيجاد القواسم المشتركة، التي تصلح لتأسيس مشروع سياسي وطني جديد، قاعدته الإجماع الوطني العام، بدلاً من نهج الانفراد والاستئثار الحزبي السلطوي الذي لا يزال سائداً في حيواتنا السياسية العربية، وبالتالي فإن الأجدى هو أن تدرك الأنظمة العربية بضرورة التغيير الاختياري، وبما يتفق مع مطالب القوى الوطنية المعارضة. ولا يزال هنالك متسع من الوقت للعمل على ترجمة هذه الضرورة إلى ممارسة، قبل أن تأتي ساعة لا ينفع معها الندم. وربما لن تنتظر القوى الحية في بعض بلداننا العربية طويلاً كي يبدأ حراكها واحتجاجها.
والأجدى هو أن تبدأ الدول بتهيئة المناخ للتغيير الديمقراطي السلمي، من خلال إلغاء حالة الطوارئ والقوانين والمحاكم الاستثنائية، وإتباع ذلك بالإفراج عن جميع معتقلي الرأي والسجناء السياسيين، أولئك الذين وجهت إليهم تهماً باطلة، أو لم توجه لهم أية تهمة، أو انتهت فترة محكومياتهم ولم يفرج عنهم. وكذلك تشريع التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة، وضمان حرية التظاهر، وعقد الاجتماعات العامة، وإلغاء جميع القوانين التي أدت إلى إيجاد حالة من الجمود والانسداد السياسي.