«الحضارة الطائفية» أهم خصائص المنظمات الرائدة.. جامعة الإمام مثالا
ناقشت في مقال الأسبوع الماضي مفهوم "الثقافة التنظيمية" وطريقة تكونها، وأهم ملامحها. فذكرت أنها تعني الأعراف، والقيم، والعادات التي تكونت في المنظمات نتيجة التفاعل بين سلوكيات العاملين والإجراءات الإدارية المتبعة في المنظمة، ونمط القيادة، وتفويض السلطة. وذكرت أنه من الصعب تغيير "الثقافة التنظيمية" حتى إن كانت ضد رغبات العاملين، ولكن ذلك ليس مستحيلا، لذا ينبغي عدم مواجهتها، ومن أراد التأثير في مكوناتها فعليه التحلي بالصبر، لأن التغيير يأخذ وقتا طويلا.
وهناك مفهوم آخر يختلف ويتشابه مع "الثقافة التنظيمية" وهو ما يطلق عليه بـ"الحضارة الطائفية". وفي هذا المقال نريد أن نلقي الضوء على هذا المصطلح، وكيف يختلف ويتشابه مع "الثقافة التنظيمية".
مصطلح "الحضارة الطائفية" يعني اجتماع منسوبي المنظمة حول رسالتها والولاء لها والدفاع عنها، كما يدافعون عن عقائدهم الأصلية. وحتى لا يسأ فهم هذه النقطة فإننا لا نقصد هنا بالطائفة بمعناها اللغوي ولا بمعناها الاصطلاحي، بل بمعناها الإداري. فقد اعتدنا أن نربط كلمة طائفة بالدين وبالمعتقدات الدينية، ونحن لا أقصد ذلك ألبته، بل نعني التفاف منسوبي المنظمة حول رسالتها والإيمان بها والاعتقاد وهم بفعلتهم هذه يأخذون شكل الوحدة الطائفية، لأن إعجابهم بمضمون الرسالة بلغ حد الإيمان والاعتقاد.
ففي المنظمات التي ترسخت رسالتها يشعر أعضاؤها بالتميز والنخبوية، ويرون أن المنظمة تروي هذا الإحساس، لذا نراهم يستميتون في الدفاع عنها، وقد يكونون مختلفين ثقافيا وعقديا بمعنى أن ثقافتهم وعقائدهم الأصلية مختلفة، بل قد تكون متنافرة، ومتناحرة، وكل يريد النيل من الآخر. فقد ترى في بعض منظمات الأعمال طوائف دينية متناحرة ـــ كالبروتستنت والكاثوليك في المسيحية ـــ ولكنهم يجتمعون ويتفقون على رسالة المنظمة، ولذا تم تغيير كلمة "رسالة" أحد مصطلحات الاستراتيجية إلى كلمة "عقيدة"، لأنها قادرة على جمع الناس على معتقد إداري داخل المنظمة، وإن كانوا متناحرين في عقائدهم الأصلية. فها هو "والت ديزني" مؤسسة شركة "ديزني" الشهيرة يتفاخر أمام الملأ، ويقول إن موظفي شركته يحملون بين جوانحهم عقيدتين اثنتين، الأولى عقيدتهم الأصلية (الإسلام، المسيحية، اليهودية ... إلخ) والثانية عقيدة الشركة.
وعندما تتكون "الحضارات الطائفية"، فإنه هذا يسهل على المنظمة الكثير من المهام ومنها أنها لا تحتاج إلى أساليب رقابة عالية، فجميع العاملين بلا استثناء يؤدون أعمالهم بشغف وحماس، وكأنهم يعملون في منازلهم، وبين أهليهم فقد أصبحت المنظمة قطعة منهم. كما أنها تسهل في تحقيق معايير الأداء ومعايير الجودة الشاملة، فالمنظمات التي ترسخت حضارتها الطائفية تحقق معايير الجودة بسهولة وتسير إليها طواعية.
وهذا الأمر ليس حكرا على بيئات الأعمال الدولية، فهناك عدد من منظماتنا تكونت بداخلها "الحضارات الطائفية"، ومنها شركة أرامكو وجامعة الإمام. فجامعة الإمام على سبيل المثال تسير إلى تحقيق معايير الاعتماد الأكاديمي والجودة الشاملة بسلاسة، لأنه تكون بداخلها "الحضارة الطائفية" بمعناها الإداري. فقد ترسخت لدى منسوبيها رسالة الجامعة حتى وصلت إلى حد العقيدة، وهذا كفيل بتشكيل "الحضارة الطائفية" داخل الجامعة. وإذا أردنا أن نفهم هذا النقطة فعلينا أن ننظر إلى جامعة الإمام كمنظمة إدارية، وليس كمؤسسة أكاديمية تدرس علوم الدين. فجامعة الإمام قد تبلورت بداخلها الحضارة الطائفية ـــ بمعناها الإداري واللغوي ولا الاصطلاحي ـــ لأن منسوبيها قد تشربوا رسالتها، وبهذا فلن تعاني كثيرا في الوصول إلى معايير الجودة والاعتماد الأكاديمي، لأن هذه المعايير تعتمد على ركيزة أساسية، وهي "الرسالة" ومدى إيمان منسوبي المنظمة بها، وهذا الشرط تحقق في جامعة الإمام منذ أمد بعيد.
لذا أقول للذين يعارضون السلوك التنظيمي لجامعة الإمام إن المشكلة ليست فيكم وليست في قدراتكم، كما أن المشكلة أيضا ليست في الجامعة ولا في طريقة أدائها ولكن أفكاركم ومعتقداتكم الإدارية (وليست الدينية) تختلف عن معتقدات الجامعة الإدارية (وليست الدينية)، لأن الجامعة قد بنيت على فكرة المنظمة الرائدة، وليست على فكرة القائد الفذ. وأنا أقولها بصراحة إنني معجب كثيرا بالسلوك التنظيمي لجامعة الإمام، فهي من مؤسسات التعليم العالي القلائل التي تسير إلى الجودة والاعتماد الأكاديمي بصمت وثقة، وقد تنبأت بهذا من قبل.
وعندما تتشكل "الحضارة الطائفة"، ويصلب عودها فإنه يستحيل الانقلاب عليها، أو تغييرها أو مناهضتها بعكس "الثقافة التنظيمية" التي يمكن التمرد عليها، وتغيير بعض مكوناتها رغم أن ذلك قد يأخذ وقتا طويلا. و"الحضارة الطائفية" لا توجد في كل المنظمات فهي من خصائص المنظمات الرائدة، بخلاف "الثقافة التنظيمية" التي تعد خاصية كل منظمة، فجميع المنظمات بلا استثناء مهما كان حجمها أو وضعها القانوني يوجد بها "ثقافة تنظيمية"، ولكن ليس بالضرورة أن يتبعها "حضارة طائفية".
وآخر اختلاف بين هذين المصطلحين أن العاملين قد يتعايشون في المنظمات التي تكونت بها "الثقافة التنظيمية" رغم تفشي بعض الصراعات فيما بينها. أما المنظمات التي تشكلت بداخلها "الحضارة الطائفية" فإما أن تكون أحد أفرادها المخلصين أو أن تكون أحد أعدائها اللدودين، وليس هناك خيار ثالث، وهذا يعني إما أن تكون بداخلها، وإما أن تكون خارج أسوارها. وقد يُقبل منك أي شيء، وتتفاوض على كل شيء، وقد ترتكب الأخطاء صغيرها وكبيرها، أما أن تعارض رسالة (عقيدة) المنظمة فلا.
هذه وجهة نظري حول هذين المصطلحين المختلفين، والمتشابهين، والمتشابكين أتمنى أن أكون قد أوصلتها إلى ذهن القارئ بوضوح.