لقاءات مشتركة ومصالح استراتيجية متضاربة

شكلت القمة الأمريكية ـــ الصينية، التي عقدت الأسبوع الفائت في واشنطن ما بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الصيني هو جينتاو، محطة مفصلية في تاريخ العلاقات ما بين الولايات المتحدة والصين، واكتسبت أهميتها ونجاحها من خلال سعي الطرفين إلى تحقيق نقلة نوعية في هذه العلاقات، بما يفضي إلى القضاء على المسارات التصعيدية بينهما، مع التأكيد على مسار التهدئة والتعاون، الأمر الذي سيترك آثاره على طبيعة ومستقبل علاقات الدولتين "العملاقين" اقتصادياً، وعلى التفاعلات والملفات الدولية والإقليمية.
ولا تخفي أهمية القمة حقيقة انعقادها عند مفترق توجهات شديدة الحساسية لكلا الدولتين، ولعلاقاتهما الثنائية، التي خيّمت عليها، وتحكمت بها، جملة من القضايا الثنائية والإقليمية والدولية طوال عام 2010 الماضي، التي ما زالت تتأرجح بين كونهما دولتين عظيمتين متنافستين في عالم اليوم، ودولتين صديقتين، أو تسعيان إلى أن تكونا كذلك، خصوصاً بعد أن تشكل في العلاقات الصينية ــــ الأمريكية إطار يتسع مضمونه ومجالاته باطراد، وتزداد فيه المصالح على اختلاف مستوياتها تعقيداً، حيث تتشابك وتوجد، في الوقت نفسه، المصالح والمنافسة والتوافق والخلافات.

كثرة الملفات
وبالرغم من أن الملفات التي تناولتها قمة واشنطن كثيرة ومعقدة، إلا أنها حاولت التوصل إلى توافق أوّلي بشأن بعضها، وإيجاد حلول بشأن بعضها الآخر. وتركزت الملفات بشكل خاص حول ملف أزمة الميزان التجاري الأمريكي ــــ الصيني، وأزمة البرنامج النووي الكوري الشمالي، وملف أزمة جزيرة تايوان، وملف أزمة البرنامج النووي الإيراني، حيث أشارت التقارير والمعلومات إلى أن القمة الأمريكية ــــ الصينية تمكنت من تحقيق تقدم في مجال أزمة ملف الميزان التجاري الأمريكي ــــ الصيني، إضافة إلى السعي من أجل تحفيز أداء هذا الميزان لجهة العمل ضمن أسلوب أكثر تحقيقاً للتوازن وانسجام المصالح الاقتصادية بين الطرفين. لكن أبرز ما تم إنجازه في هذه القمة تمثل في الاتفاق على قيام الصين بشراء سلع أمريكية بمبلغ 45 مليار دولار أمريكي خلال هذا العام، وبما يفضي إلى معالجة فجوة الميزان التجاري الأمريكي ــــ الصيني، ودعم موقف إدارة الرئيس أوباما في مواجهة المتشددين في الإدارة الأمريكية، الذين يطالبون بضرورة تصنيف الصين بوصفها عدواً، ومصدراً لتهديد الأمن القومي الأمريكي. ويمثل هذا الاتفاق صفقة مهمة تقوم الصين بموجبها بشراء سلع تكنولوجية أمريكية بقيمة 45 مليار دولار أمريكي، لذلك اعتبرها معظم المراقبين نقلة مهمة في مسار العلاقات الاقتصادية الأمريكية ــــ الصينية.
وكان من المفترض أن يجري تناول معظم الملفات الإقليمية المختلف عليها بين الولايات المتحدة والصين، وخصوصاً البرنامج النووي الإيراني والشرق الـوسط والنزاعات الإفريقية، لكن البعد الاقتصادي طغى على سائر الأبعاد الأخرى، حيث ركزت الإدارة الأمريكية على عقد صفقة تضمن لها مقايضة العجز التجاري الأمريكي ــــ الصيني بالقضايا الإقليمية والدولية، من خلال مساندة الصين لسياسة الولايات المتحدة حيال الملفات الإقليمية والدولية مقابل غض الإدارة الأمريكية النظر عن العجز التجاري الأمريكي ــــ الصيني، إلا أن الصين أرادت من جانبها التوصل إلى إبرام صفقة تضمن لها مقايضة العجز في الميزان التجاري الصيني ــــ الأمريكي بحصولها على التكنولوجيا الأمريكية، من خلال ضمان بيع الولايات المتحدة التكنولوجيا المتطورة للصين مقابل سعي الصين إلى تقليل العجز التجاري الأمريكي ــــ الصيني عن طريق شراء مزيد من السلع الأمريكية.

تنازلات ومكاسب
يبدو أن كلاً من الرئيسين، الأمريكي باراك أوباما والصيني هو جينتاو، قدما تنازلات مهمة ومتبادلة في عدد من الملفات والقضايا التي بحثت بينهما، عزاها البيان الختامي للقمة إلى "إدراكهما مدى أهمية العمل معاً لبناء الشراكة الاقتصادية المتكافئة"، حيث أكد البيان على سعي الدولتين إلى تحقيق "شراكة اقتصادية تعاونية، تقوم على الاحترام والمنفعة المتبادلين"، خدمة لمصلحة بلديهما والاقتصاد العالمي، كما أكد التزام الطرفين بتعميق وتوسيع تعاونهما المشترك في مجالات النفط والغاز والطاقة النظيفة.
وهناك من يعتبر أن الصين حصلت على القسط الأكبر من التنازلات الأمريكية، لعل أبرزها هو حصولها على وعد أمريكي بمساندة مسعى الصين الهادف إلى ضم عملتها الوطنية في المستقبل إلى سلة العملات المستخدمة في تقويم حقوق السحب الخاصة، التي تقتصر حالياً على الدولار واليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني. إلى جانب تخفيف حدة الضغوط التي تتعرض لها الصين من أجل تسريع حركة ارتفاع أسعار صرف اليوان في مقابل الدولار والعملات الرئيسة الأخرى.
في المقابل، حصلت الشركات الأمريكية على عشرات من عقود التصدير التي أبرمت مع الصين، وحرص البيت الأبيض على الإشارة إلى أنها تدعم 250 ألف وظيفة في 12 ولاية أمريكية. كما حصلت الصين على تعهد الولايات المتحدة، يمكنه تأمين نوع من الحماية لمئات مليارات الدولارات من الأموال الصينية المستثمرة في الولايات المتحدة، وتتعلق بأذون الخزانة. ويقضي التعهد بالتزام الإدارة الأمريكية الامتناع عن اتخاذ إجراءات من شأنها تعريض الدولار لتقلبات شديدة وحادة، إضافة إلى السعي إلى خفض العجز المالي الأمريكي في المديين، المتوسط والبعيد.
ومن جانبها، وعدت الصين بتكثيف جهود زيادة الطلب المحلي في سياق "العمل على ضمان أسباب النمو الاقتصادي القوي والمستدام في الولايات المتحدة والصين والعالم"، كما التزمت بالاستمرار في سياسة إصلاح سعر صرف اليوان، وزيادة مرونته، وذلك كي تتمكن الولايات المتحدة والصين من "انتهاج سياسات نقدية استشرافية تأخذ في الاعتبار تداعيات هذه السياسات على الاقتصاد العالمي"، حسبما ورد في بيان القمة.
غير أن الرئيس باراك أوباما خرج بأحد أهم الإنجازات بخصوص حقوق الملكية الفكرية، التي كانت محط انتقاد شديد لجميع الإدارات الأمريكية تجاه الصين، حيث وعدت الصين بفرض رقابة موثقة وشديدة لضمان استخدام مؤسساتها الحكومية برمجيات مشروعة، ومدفوعة القيمة، وتعهدت بالامتناع عن تطبيق "بنود سياسة الابتكار الوطني" على المناقصات الحكومية، وهو ما يشكل استجابة لمطالب الشركات الأمريكية، التي تعتبر أن هذه السياسة تحرمها من فرصة التنافس على عقود ضخمة وكبيرة القيمة. كما وعد الرئيس الصيني بتشجيع الشركات الصينية على الاستثمار وإحداث الوظائف في مختلف أنحاء الولايات المتحدة.

لغة الأسواق
تعد الصين أحد أكبر الأسواق العالمية والأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة، إذ شهدت العلاقات التجارية والاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة نموا مطرداً في العام الماضي. وبحسب الإحصاءات الأمريكية، فإن حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة في الفترة من كانون الثاني (يناير) إلى تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2010 بلغ نحو 346.89 مليار دولار أمريكي، بزيادة أكثر من 30 في المائة عن الفترة نفسها من عام 2009، فيما قدرت واردات الصين من الولايات المتحدة بـ 89.79 مليار دولار أمريكي، بزيادة 32.2 في المائة عن الفترة نفسها في عام 2009. وخلال الفترة نفسها، حافظت الصين على مكانتها كقوة جاذبة للشركات الأمريكية، حيث بلغت الاستثمارات الأمريكية في الصين 2419 مليون دولار أمريكي، بزيادة 18.75 في المائة عن الفترة نفسها من العام السابق. وبلغ عدد المشروعات الاستثمارية بأموال أمريكية مع نهاية العام الماضي 59 ألف مشروع، أي بإجمالي 64.625 مليار دولار أمريكي.
وفي المقابل تمثل السوق الواسعة المكان الأكثر جاذبية وأهمية بالنسبة إلى رجال الأعمال الصينيين، وإلى استثمارات الصينيين، التي وصلت إلى ما يقارب ثلاثة تريليونات دولار، استثمرت في السندات الحكومية الأمريكية، التي تقوم بتمويل عجز الميزانية لديها. ولا شك في أن ذلك يجعل من شبه المحتمل على الحكومتين، الأمريكية والصينية، السعي إلى إيجاد أرضية مشتركة لعلاقات جيدة وقادرة على الديمومة بينهما.
ويميل التبادل التجاري بين الدولتين لمصلحة الصين بفارق كبير، لذلك تسعى الولايات المتحدة منذ سنوات للوصول إلى حالة من التوازن في مجال الاستيراد والتصدير المتبادل بينهما. وشكلت هذه القضية المهمة إحدى القضايا الخلافية في قمة أوباما ــــ جينتاو، إلى جانب قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية في الصين وسعر العملة الصينية المنخفض الذي يسمح، إلى جانب عوامل أخرى كثيرة، بزيادة حجم الصادرات الصينية إلى الأسواق الأمريكية ومنافسة البضائع الوطنية. كما أن هناك عديدا من المسائل التجارية المختلف حولها، وخصوصاً مواقفهما السياسية المتناقضة من الملفين النوويين الإيراني والكوري الشمالي، والفوارق بين السياسة الفعلية والتصريحات الكلامية الأمريكية الرسمية حول صين واحدة، وبين الموقف العملي من سعي الصين إلى توحيد ضفتي مضيق تايوان، أي ما تسميه الصين بعملية "إعادة الجزيرة المتمردة تايوان إلى الوطن الأم الصين الشعبية".
وتعي الصين حقيقة السياسة الأمريكية حيال تعاظم الدور الصيني المتناسب مع زيادة قدراتها الاقتصادية وغيرها، وتظهر نفسها في موقع الدولة التي تعمل جاهدة في الوقت نفسه على بناء أوثق العلاقات مع مختلف الدول على أساس المساواة والاحترام المتبادل، واحترام القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة.

تنوع العلاقات
تمتاز العلاقات الأمريكية ــــ الصينية بالتنوع والاتساع، خصوصاً مع النهضة الصينية الناجحة في مختلف الميادين. وقد جرت عمليات إعادة هيكلة وتشكيل هذه العلاقات خلال مختلف المراحل، من خلال تطور مليء بالتقلبات والاضطرابات. وكان التعاون الأمريكي ــــ الصيني خلال مرحلة الحرب الباردة ينهض على أساس العلاقات الاستراتيجية المشتركة ضد توسع الاتحاد السوفياتي السابق. أما بعد انتهاء الحرب الباردة فقد تمّت مأسسة العلاقات بينهما على أساس المصالح والمنافع الاقتصادية والتجارية المتبادلة، إلى جانب التعاون التجاري والأمني. واتسعت العلاقات لتشمل مضامين ومجالات جديدة ولتزداد تعقيداً. وإلى جانب أهمية العلاقات الاقتصادية الحاسمة في سياسة إدارة الرئيس أوباما تجاه الصين، فإن تطوير العلاقات العسكرية يسير بانتظام، من خلال الحوار الاستراتيجي والتعاون القائم بين الدولتين، الذي من ضمن أهدافه العمل على التعرف على أهداف وخطوات الطرف الآخر لبناء الثقة بينهما، خاصة مع ازدياد القلق الأمريكي والأوروبي من تسارع عملية التحديث والبناء العسكري الصيني، حيث تقوم الولايات المتحدة بمراقبته حسبما تقول وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، التي طالبت في أكثر من مناسبة المسؤولين الصينيين بتقديم تفسيرات للنيات الصينية التي تقبع خلفه، الأمر الذي يشير إلى استمرار فقدان الثقة بين كل من الولايات المتحدة والصين في المجال العسكري، حيث تطالب الإدارة الأمريكية الصين بالتخلي عن ترددها في قيام علاقات عسكرية ثنائية معها، بما يسهم في تخفيف وتبديد الشكوك الأمريكية القائمة في هذا المجال.
ويبدو أن القمة الأمريكية ـــ الصينية لم تتمكن من تحقيق أي تقدم في المجال العسكري، حيث ما زال المسؤولون الأمريكيون يشيرون إلى اعتماد إدارة أوباما استراتيجية مركبة من ثلاثة عناصر مع الصين، تقوم على العمل لبناء الثقة مع الصين عبر الحوار الاستراتيجي والاقتصادي، والانخراط المشترك والفاعل للدولتين في منطقة آسيا والباسيفيك، والالتزام بتوسيع التعاون الاقتصادي والأمني بين الدولتين. كما تريد الإدارة الأمريكية تعاوناً صينياً أكبر معها في الأمم المتحدة، وتجاه النزاعات الإقليمية، لكن القادة الصينيين لهم حساباتهم وتطلعاتهم الخاصة بهم. وهي تفترق في معظمها عما تريده الولايات المتحدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي