هل بالمال والاقتصاد فقط تفسر الحركات الاجتماعية؟!
من نعم الله على الناس أن أودع فيهم الحاجات والرغبات والميول التي تحركهم للعمل والسعي والبناء وعمارة الأرض, التي هي جزء من رسالة بني آدم على هذه الأرض في الحياة الدنيا. ولذا بسطت الأرض ليسهل الكدح ''هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور''. وغرس الله في نفس بني آدم حب التملك وحب المال ''المال والبنون زينة الحياة الدنيا''.
ولقد بسط الله المال لبعض الناس حتى زادت ثرواتهم، وأتخموا بالمال حتى إنهم لا يعرفون كيف يمكن أن يصرفوه ويتعاملوا معه, بل يظن بعضهم غروراً أن هذا المال هو سياجه في الحياة, وقوته, وحاميه من صروف الدهر وتقلباته, حتى إن الغرور يصل بصاحبه إلى حد الاستهتار بالآخرين, وكرامتهم الإنسانية, حتى حياتهم وأرواحهم التي منحهم الله ''عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين''.
ومع هذه الحقائق الإلهية بشأن المال وقيمته في حياة الناس والمجتمعات, ودوره في العلاقات بين الناس والحكومات, يمكن تفسير الكثير من التصرفات والسلوكيات التي تحدث في هذه الحياة سواء كانت تصرفات أفراد عاديين أو تصرفات المسؤولين والحكومات, التي يفترض أن يكون دورها إدارة المال وحسن تدبيره وتصريفه وتنميته, خاصة إذا كان المال مالاً عاماً, وليس الاعتداء عليه وتملكه دون أدنى حق.
الحروب بين الدول, والعداوات بين الناس, والخلافات بين الأقارب قد يكون المال أحد أسبابها الرئيسة قديماً وحديثاً, في السابق كانت الحروب بين القبائل بسبب الماء والمرعى, وفي الحاضر حروب الدول على الحدود والثروات والمعادن والنفط والطاقة, كما هو حال الولايات المتحدة في حروبها السالفة والقائمة.
المال يشعر صاحبه إذا لم يكن ذا حس إيماني بأنه بلغ منتهاه, وأن هذا المال يحقق له السعادة ويحميه من الأعداء, ومع قيمة المال وأهميته إلا أن المال وحده لا يكفي ولا يغني صاحبه عن الحكمة, وفوق ذلك وقبله وبعده الاستشعار بأن المال نعمة من نعم الله الكثيرة لا بد من المحافظة عليها, والسعي إلى كسبها بالطرق المشروعة التي لا تبخس الناس حقهم, ولا تعوزهم إلى مصادر رزق محرمة, أو غير مشروعة, كما يحدث من ارتشاء أو اتجار في المخدرات, أو سرقة أو غير ذلك من الممارسات المحرمة والمضرة بالفرد والمجتمع على حد سواء.
النهم في جمع المال قد ينسي الفرد التفكير في مصادره ما إذا كانت مشروعة أو غير مشروعة, وهذا الوضع يترتب عليه الكثير من المخاطر سواء للفرد أو للجماعة أو الحكومة, ولذا نجد أن معظم الاضطرابات التي تحدث في المجتمعات قد يكون سببها في الأساس المال, إما كثرة عند طرف يصاب صاحبه بالغرور, ومن ثم العدوان, وبخس الناس حقوقهم, أو طرف معدم لا يجد ما يقيم صلبه, وهذا من حقه الشعور بالغبن, خاصة إذا كان مؤهلاً لكن الأوضاع الاجتماعية والتنظيمية غير السليمة حرمته من العيش الكريم الذي يستحقه في مسكن, مأكل, ملبس, مشرب مناسب, وخدمات تعليمية وصحية. لذا يرى المتأمل في المجتمعات العربية والإسلامية العجب العجاب, أغلبية ساحقة نصيبها من ثروات أوطانها فقط سماعها بهذه الثروات, ومعرفتها أن أوطانها فيها معادن من حديد, فوسفات, ذهب, بترول, غاز, وغيرها من الثروات الزراعية والصناعية, لذا فهذه النسبة الغالبة آبارها معطلة في حين أن نسبة قليلة في المجتمع تتمتع بكل المزايا الاقتصادية والتعليمية والاستثمارية, حيث في يدها المناصب العليا والوظائف الكبيرة والشركات, والوكالات، وتقوم بالمشاريع الضخمة, أي أن هذه النسبة القليلة قصرها أو قصورها مشيدة وعامرة, كما عبر عن ذلك القرآن الكريم. لقد ثبت من خلال الواقع المعاش في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن التصدع الذي تمر به بسبب حالة التهميش الناتج من نزعة الاحتكار التي تشكل عقليات وشخصيات القائمين على الأمر في هذه المجتمعات ومن يسيرونها, ويمسكون بزمام الأمر فيها, وذلك لأن هؤلاء سمحوا لأنفسهم بالاستحواذ على كل المصادر, واستحوذ عليهم هوس جمع المال بصورة مفرطة أخرجتهم من الوضع السوي, الذي أكده القرآن الكريم ''زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام''. إلا أن هذه الشهوة مقيدة بالإنفاق والزكاة, وعلى أن تكون من مصدر حلال, ولا يُبخس الآخرون في حقهم من المال العام.
المرء إذا ترك الحبل على الغارب له لن تكون لطموحاته المالية حدود مصداقاً لقول الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ــ ''لو أعطي ابن آدم واديان من ذهب لطلب الثالث ولا يملأ جوف بني آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب''.
إن الوضع الطبيعي يستوجب إخضاع الجميع للنظام, وإيجاد جهات رقابية ومحاسبة للكبير والصغير, وهذا ما يحفظ للمجتمعات تماسكها وأمنها, واستقرارها. وإذا لم تتوافر هذه الشروط وحدثت اضطرابات اجتماعية، فإن المال والاقتصاد يمكن أن يفسر الحركات والتحولات الاجتماعية, لكن مع الأخذ في الحسبان العوامل الأخرى ذات العلاقة بالمبادئ, والقيم والثوابت الاجتماعية والثقافية.