الوضع اللبناني.. العودة إلى التأزم واحتمالات الانفجار
يبدو أن الوضع في لبنان عاد إلى التأزم من جديد، وبشكل ينذر بالانفجار، خاصة بعد انهيار، أو بالأحرى إسقاط الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري، وذلك في إثر استقالة وزراء قوى الثامن من آذار العشرة، إضافة إلى أحد الوزراء الذين كانوا محسوبين على وزراء رئيس الجمهورية اللبنانية. والسبب المباشر لاستقالتهم تجسد في الإعلان عن انسداد الأفق أمام المبادرة السعودية ـــــ السورية، التي كانت تعد بمعالجة الاحتقان والتوتر السياسي في الساحة اللبنانية، الذي بدأ بالتصاعد في الساحة السياسية اللبنانية منذ عدة أشهر. ومن ثم، فإن الوضع اللبناني ينفتح من جديد على احتمالات عديدة، تتداخل فيها السيناريوهات كافة.
وتسود لبنان، اليوم، أجواء من التوجس والاحتقان، وذلك بعد أن جنح الخطاب السياسي نحو حالة غير مسبوقة من التجييش والتحشيد، جعلته يستمد مفردات لغته السياسية اليومية من قاموس التشنج والتصعيد والتهويل والتخوين على حساب تراجع لغة الحوار والتفاهم والوفاق، الأمر الذي أدى إلى اضمحلال مساحة التهدئة، وتضييق خيوط الحوار، وذلك بعد أن وصل الانقسام إلى ذروة جديدة، وبات خطر ''انكسار الشراكة'' يتهدد المجتمع اللبناني وتركيبته.
ويبدو أن هذه الأوضاع ستتجه نحو المزيد من الاحتقان والالتهاب إذا لم يدرك منتجو الخطاب السياسي اللبناني أن المطلوب هو فتح فجوة في جدار الأزمة، وليس الانجرار نحو المزيد من الانسداد، خاصة أن لبنان في حال سباق مع الزمن لتجنب أجواء المواجهة والفتنة، وفي حاجة إلى إنعاش فرص الانفراج على الرغم من تضاؤلها واقتراب نفاد الزيت في قنديلها.
الخلاف حول المحكمة
لا شك في أن الأوضاع في الداخل اللبناني تتأثر بشكل كبير بالمتغيرات الإقليمية والدولية. وعليه، فإن الاختلاط في الأوراق اللبنانية يمكن قراءته في ظل تلك المتغيرات، مع عدم إنكار جملة العوامل اللبنانية الداخلية، التي تمتلك دورها الخاص في مسرح لعبة الاصطفاف الطائفي. وقد شهد لبنان تهدئة بعد اتفاق الدوحة، الذي وقّعته القوى السياسية اللبنانية بتاريخ 15/5/2008، وشكل تسوية مؤقتة، أطلقت مساراً قام على حظر اللجوء إلى العنف واستخدام السلاح، في انتظار التسوية الأكثر ديمومة التي أوصى بالوصول إليها عبر مؤتمر الحوار. لكن الوضع اللبناني عرف أخيرا توتراً متصاعداً حول جملة من القضايا الداخلية، وذلك بفعل التأثيرات المحيطة به، سواء الساخنة منها أم الباردة.
وهناك من يربط بين التأزم في لبنان واقتراب موعد اللقاء التفاوضي، المرتقب في إسطنبول، بين مجموعة ''خمسة زائد واحد'' وإيران حول الملف النووي الإيراني. إضافة إلى مؤتمر القمة الاقتصادية العربية، التي لن تبحث في الاقتصاد وحسب؛ بل تبحث في القضايا والأوضاع العربية كذلك، وفي إمكانية ذهاب الفلسطينيين والعرب إلى مجلس الأمن من أجل وقف الاستيطان، وتجديد التمسك بالدولة المستقلة في حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ويرجع التوتر في الوضع اللبناني إلى الفترة التي تزايد فيها الحديث عن دور المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، خصوصا انتشار تسريبات لمعلومات من المحكمة الدولية، تفيد بأنّ الاتهام سيوجّه إلى أعضاء في ''حزب الله'' بالمشاركة في تخطيط وتنفيذ عملية اغتيال رفيق الحريري في 14 من شباط (فبراير) عام 2005، وذلك بعد أن استدعوا كشهود إلى المحكمة. واستدعى ذلك إعلان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عن رفضه القاطع للاتهام، واعتبر الاتهام بمنزلة محاولة إسرائيلية للنيل من الحزب، وطالب بإحالة شهود الزور إلى المحاكمة، وكشف من وظّف هؤلاء ومن حرّضهم ومن دعمهم أيضًا. وعلى خلفية ذلك بدأ الوضع في لبنان ينحو باتجاه التوتر والاحتقان، الأمر الذي استدعى قيام الملك عبد الله بن عبد العزيز بجولة، قادته إلى كل من دمشق وبيروت، بغية تهدئة الأوضاع والبحث عن مخارج تمنع دخول لبنان في طاحون الصراع والاقتتال المذهبي.
إذاً، يعود السبب المباشر لتأزم الوضع السياسي في لبنان إلى الخلاف حول المحكمة الدولية وقرارها الاتهامي، أو القرار الظني، حيث يرفض فريق الثامن من آذار توجهات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ويعترضون على كيفية وأسلوب عملها. ويرى بعض المهتمين بالشأن اللبناني أن استقالة وزراء هذا الفريق جاءت وكأنها خطوة استباقية لصدور القرار الظني للمحكمة، أي أن المعارضة اللبنانية آثرت الانسحاب من الحكومة قبل صدور القرار المنتظر، لكن وبصرف النظر عن محتوى القرار وحيثياته، فإن واقع الحال يكشف أن جميع المحاولات والضغوط والتدخلات، التي مورست لمنع صدور هذا القرار، أو لإلغائه أو تأجيله، لم يكتب لها النجاح.
وترى قوى المعارضة اللبنانية أنّ إسرائيل هي التي قتلت رفيق الحريري، أو على الأقل هنالك احتمال قوي يشير إلى ذلك، وأنّ المحكمة تجاهلته تماماً، وقد سبق أن تجاهله التحقيق الدولي من قبل، الأمر الذي يشي بوجود مؤامرة دولية، تقودها الولايات المتحدة، تستهدف وجود المقاومة وسلاحها ولن تسمح لها بالمرور. كما تطالب قوى المعارضة بمحاكمة ''شهود الزور'' في لبنان، وإصدار قرار من مجلس الوزراء بتحويلهم إلى المجلس العدلي اللبناني، وليس إلى القضاء العادي. ويرجع الإصرار على محاكمتهم أمام المجلس العدلي إلى أن جميع القضايا التي ينظر فيها هذا المجلس لا يجوز النظر فيها في أيِّ مكانٍ آخر؛ ومن ثم يجب على الحكومة اللبنانية الطلب من المحكمة الدولية ومن مجلس الأمن الدولي التوقف عن النظر في قضية اغتيال رفيق الحريري ومعها بقية قضايا الاغتيالات، إلى حين انتهاء المجلس العدلي من محاكمة شهود الزور الذين استندت إليهم المحكمة الدولية.
في المقابل، ترفض قوى الرابع عشر من آذار التخلي عن المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، معتبرة أن لا أحد يمكنه إلغاء المحكمة أو إيقافها. كما يرفض ـــ من جهته ـــ رئيس، ما باتت تسمى، حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري اتهام ''حزب الله'' أو المقاومة أو أي طائفة بالوقوف وراء اغتيال والده، وأبدى في أكثر من مناسبة استعداده لمنع حدوث أي فتنة لبنانية على خلفية قرار المحكمة.
وبدوره أكد رئيس المحكمة الدولية ومُدّعيها العام أن المحكمة بعيدة عن التسييس، وأنها ستستند في قرارها الاتهامي على دلائل قاطعة، وليس على أقوال شهود الزور، لكن قوى المعارضة اللبنانية أصرت على أن يحيل مجلس الوزراء ملف شهود الزور إلى المجلس العدلي بغية محاكمتهم، وحين لم يُستجَب لطلبها عملت على الانسحاب من الحكومة اللبنانية، التي تشكلت في إثر التوقيع على اتفاق الدوحة، بوصفها ''حكومة الوحدة الوطنية''.
المبادرة السعودية - السورية
تكشف ردود الأفعال السياسية في العواصم العالمية عن إسقاط الحكومة اللبنانية المدى الذي بلغه تدويل الوضع اللبناني، والذي يعكس تحوّل لبنان مجدداً إلى مسرح للتجاذبات والضغوط المتبادلة بين القوى الدولية والإقليمية المتصارعة على النفوذ في المنطقة، حيث أضحت الأزمة اللبنانية تتقاذفها ثلاث دوائر، داخلية، وإقليمية، ودولية، الأمر الذي يبرهن على أن معالجتها في حاجة إلى تعاون وتضافر الجهود والمساعي على هذه الأصعدة الثلاثة. ولا شك في أن المرحلة الجديدة التي دخلتها الأزمة في لبنان لها علاقة بمجمل قضايا وملفات منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً القضية الفلسطينية والانسداد الذي عرفته المساعي التفاوضية، وكذلك التجاذب ما بين الولايات المتحدة وإيران حول الملف النووي الإيراني والدور الإيراني في المنطقة.
ويعكس إسقاط الحكومة اللبنانية الحدّة التي وصل إليها الصراع السياسي بين القوى اللبنانية وحلفائها الإقليميين والدوليين الطامعين في استثمار المعطيات اللبنانية، ويشكل صدمة سياسية للتفاهمات التي أبرمت بينها وللمساعي التي بذلت لحلحلة الوضع المتأزم. ولعل أهم المساعي التي بذلت جاءت من طرف السعودية وسورية من خلال ما عرف بمعادلة التفاهم الثنائي ''س ــــ س''، ثم المبادرة السعودية ــــــ السورية، التي ولدت في إثر الزيارة الثنائية إلى لبنان، التي قام بها كل من الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس بشار الأسد، حيث تكثّف الحديث عن التواصل والسعي من أجل إحداث توافُق داخلي يتجاوز التوتر والاحتقان. وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، كثرت الأحاديث والأخبار عن قُرب توصل القوى اللبنانية إلى اتفاق في إطار المبادرة السعودية السورية، وأن الاتفاق المزعوم قد تأخَّر قليلاً، بسبب مرض الملك عبد الله؛ ثم تحدث سعد الحريري في مقابلةٍ له مع جريدة ''الحياة'' عن قيامه بما يجب عليه، أما المعارضة اللبنانية فلم تفِ بتعهداتها والتزاماتها. وعلى عكس مسحة التفاؤل جاءت الأخبار بتوقف المبادرة السعودية ـــــ السورية وانسداد الأفق السياسي أمامها، واستتبعت ذلك زيادة في درجة تأزم الوضع اللبناني.
مرحلة جديدة
تطرح أسئلة عديدة حول أسباب توقف المبادرة السعودية ـــ السورية، حيث تتردد تسريبات حول إصرار حزب الله على أن يصدر مجلس الوزراء اللبناني بياناً يعلن فيه التنكر للمحكمة الدولية وعدم التعاون معها، الأمر الذي لم يكن ممكناً، خصوصاً عند الأخذ في الحسبان الدور الذي لعبه الساسة في الولايات المتحدة في تعطيل المبادرة ورفض بعض نقاطها. لكن المهم هو أن يستمر التنسيق بين مسؤولي السعودية والمسؤولين السوريين، كيلا ينزلق الوضع اللبناني نحو مزيد من الاضطراب والتدهور، وأن يستمر، كذلك، الحرص السعودي والسوري على عدم العودة إلى مرحلة ما قبل المصالحة التي جرت على هامش قمة الكويت الاقتصادية، قبل سنتين، وأطلقت دينامية جديدة في العلاقات بين البلدين.
ويمتلك كلام بعض المسؤولين السوريين والسعوديين حول أنه لم تكن هناك مبادرة من طرف السعودية وسورية وجاهة كبيرة، لأن الحل بيد اللبنانيين أنفسهم، وأصل المشكلة لبناني، وحلها يجب أن يكون ـــ كذلك ـــ لبنانيا. وليس معنى هذا نقل الأزمة والبحث عن حلولها من الخارج إلى الداخل اللبناني، ذلك أن القوى السياسية اللبنانية تعول كثيراً على تحالفاتها الخارجية، وتكثر من الحديث عن الصراع الخارجي حول لبنان. وقد دخلت الأزمة اللبنانية مرحلة جديدة، بعد انسداد الأفق أمام المبادرة السعودية ــــ السورية، حيث عقدت في دمشق قمة ثلاثية، جمعت كلا من الرئيس بشار الأسد، والشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي، ورحبت بقرار الرئيس اللبناني تأجيل الاستشارات النيابية، ريثما تتحرك الجهود السياسية لمساعدة اللبنانيين على إيجاد الحل الذي يحقق مصالح الشعب اللبناني واستقرار لبنان. وفي خضم هذه التطورات، اقترح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إنشاء ''مجموعة اتصال'' بشأن التطورات الأخيرة في لبنان، تضم ''الدول التي لها علاقات خاصة مع لبنان''، ومنها دمشق وأنقرة والدوحة والرياض وواشنطن، ووعد بالدعوة إلى اجتماع في هذا الإطار قريباً. ومن ثم، فإن دولاً عديدة دخلت على خط البحث عن حلول للأزمة اللبنانية، وبما يعني فتح نافذة جديدة لمساعي التهدئة والبحث عن مخارج للوضع المتأزم في لبنان، والمهم هو ''ألا يتزعزع الاستقرار في لبنان''، لأن ''ذلك سيؤثر في الجميع بطرق مختلفة''.