رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


تربية الواقع الافتراضي

في السابق وإلى وقت قريب كانت الحدود الجغرافية بين الدول تمثل حاجزاً واضحاً يتحكم في حركة الأفراد والبضائع المادية, كما أن البضائع الفكرية كالكتب والمجلات والصحف, بما تحمله من فكر ورؤى واتجاهات ومعتقدات وأخبار سياسية, كانت تخضع للغربلة والتمحيص والمنع في كثير من الأحيان, والجميع يتذكرون كيف كان وضع الصحف والمجلات الوافدة من الخارج, حيث الجهات الرقابية تقوم بطمس سطور وفقرات في مقالات وأخبار, قد لا يكون مناسبا اطلاع الشعب عليها, وذلك من وجهة نظر الرقيب الذي يستخدم أحكامه للحد من اطلاع الناس عليها لخطورتها المفترضة على الناس.
لقد تعامل الناس مع هذه الإجراءات الرقابية بحيل متعددة بغرض تهريب مصادر الأخبار أو الأفكار هذه سواء كانت كتباً أو صحفاً ومجلات, وقد تنجح هذه الحيل أحياناً, لكنها بالتأكيد كانت تفشل في أحيان كثيرة. قبل ثورة الإنترنت كنت قادماً من خارج المملكة وكنت أحمل بعض الكتب التي لم أكن أعلم أنها غير مقبولة أو مسموح بالاطلاع عليها من قبل الرقيب, وفور وقوع نظر موظف الجمارك عليها سحبها ورفض تسليمها لي بحجة أنه غير مسموح بدخول هذه الكتب, رغم أن هذه الكتب كانت ــ من وجهة نظري وتقديري ــ لا تستحق المنع والمصادرة كما حدث نحوها.
شباب الوقت الراهن انطلق في هذا الأفق الواسع والفضاء العالمي ولم يعد مقيداً بالقيود العائلية أو الرسمية ممثلة في المدرسة والكتاب والمنهج المقرر ووزارات الثقافة والإعلام.
تربية النشء لم تعد انتقائية وحسب توجيهات الأبوين أو المعلم أو التلفزيون الرسمي, الذي كان ينتقي ويقرر للناس ما يستمعون وما لا يسمعون وما يشاهدون وما لا يشاهدون. الواقع الافتراضي لم يعد له حدود محددة بالحدود الجغرافية للدولة, ولم يعد هذا الواقع الافتراضي يخضع لأنظمة وقوانين المنع والحجز للمعرفة والفكر وفهم القضايا السياسية والاجتماعية التي كانت من اختصاص مصدر أو فرد أو فئة محددة. تربية النشء الجديد أصبحت متعددة المصادر ومتنوعة التوجهات وغير قابلة للرقابة مهما كان مصدر هذه الرقابة ومهما كانت الحيثيات التي تستند إليها مثل هذه الرقابة. مع الواقع الافتراضي سقط قانون التحكم ولم يعد في الإمكان توجيه الناس بجهاز التحكم كما كان في السابق, رغم أن جهاز التحكم لم يكن موجوداً في السابق, لكن طريقة التفكير المتخشبة التي كانت سائدة في الفترة السابقة كانت تمارس الدور نفسه الذي يمارسه جهاز التحكم في الوقت الراهن, ولم يخطر ببال القائمين على الأمر إمكانية التغير, بل إنهم لم يتمكنوا من التكيف مع ظروف الواقع الافتراضي ولم تتقبل عقولهم مثل هذا الوضع وأصبحت غريبة في العصر الحاضر. يبدو أن الهاجس السائد في الفترة التي نتحدث عنها كان إبقاء الناس على جهل في بعض القضايا ظنا من الرقيب أن جهلهم في هذه الأشياء يتحقق معه الاستقرار والأمن والطمأنينة رغم أن هذا الاعتقاد يتناقض مع المثل القائل إن كل ممنوع مرغوب, خاصة ما له علاقة بالثقافة والفكر والسياسة.
مع ثورة التكنولوجيا, خاصة الإنترنت والمواقع الاجتماعية مثل فيس بوك وتويتر وأجهزة الجوال, سهلت عملية التواصل بين الناس في جميع بقاع الأرض وبجميع اللغات ومن الثقافات كافة, وكسرت الحواجز والحدود بين الدول ولم يعد ما كان ممنوعاً في السابق ممنوعاً في الوقت الراهن. بل إن هذا الوضع التقني المتقدم خلط الأوراق على كثير من الدول ولم يعد دور الرقيب وارداً من الناحية العملية ولم يعد وجود للمصدر الذي يعتبر نفسه مصدر الحكمة ويقرر للناس ما يقرأون وما لا يقرأون, وما الأفكار التي يجب أن يحملها الناس أو يبتعدوا عنها إزاء الكثير من القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية.
الفضاء المفتوح والاتصال الإلكتروني أحدثا نقلة كبيرة في حياة الناس وفي واقع الكثير من المجتمعات, وزامن هذا الوضع تغير كبير في طريقة تفكير الناس, خاصة الشباب وفي الاتجاهات التي يحملونها إزاء الكثير من الأمور الداخلية والخارجية, ولم يعد بالإمكان تحديد الموضوعات والقضايا الواجب تشكيل فكر أو اتجاه نحوها في الوقت الراهن. تربية الواقع الافتراضي تنتقل بالفرد من الواقع المحسوس بكل تعقيداته وتكوينه وظروفه الطبيعية والمصطنعة وما توجد فيه من محددات وعوائق سواء على شكل أنظمة وتقاليد وعادات إلى عالم أرحب تختفي فيه الحواجز كافة ويشعر فيه بالحرية والتخلص من الرقابة الخارجية. هذه التربية قربت المسافات واختصرت وقت التواصل وأصبح المتواصلون هم أصحاب القرار في نوع وطبيعة ما يتواصلون بشأنه .. فهل ترتقي عقولنا إلى هذا المستوى وندرك أن العصر تغير قبل أن نخرج منه راضين أو مكرهين؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي