دول الخليج .. أمن المنطقة واستقرارها يبدأ بحل القضية الفلسطينية

مع كل زيارة تقوم بها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى دول الخليج العربي، وإلى المنطقة، تُطرح أسئلة عديدة على هامش الزيارة، حول الهدف منها، وما الجديد الذي تحمله الوزيرة في جعبتها؟ وهل من تحوّل جديد طرأ على النظرة الأمريكية لمشكلات وملفات وقضايا المنطقة، وفي مقدمها قضية الصراع العربي - الإسرائيلي؟ وما الرسالة التي تريد توصيلها، من خلال دبلوماسية القوة الذكية، إلى بلدان المنطقة؟
ويبدو - بحسب ما رشح من تصريحات - أن ملفين رئيسين يتصدران الزيارة الجديدة لوزيرة الخارجية الأمريكية، وهما: الملف الإيراني والملف العراقي، وما يتفرع عنهما من قضايا وإشكالات، حيث استهلت السيدة هيلاري كلينتون جولتها الحالية للمنطقة، بالدعوة - من أبو ظبي - إلى أن تفتح كل دولة خليجية سفارة لها في العراق، وأن تكون العلاقات مع هذا البلد على جدول أعمال الاجتماع المقبل لمجلس التعاون الخليجي. كما حثّت الوزيرة كلينتون من جهة أخرى دول الخليج على التركيز على العقوبات المفروضة على إيران على خلفية برنامجها النووي المثير للجدل.
ولا شك في أن الدول التي تشملها زيارة كلينتون، وهي الإمارات وعمان وقطر، تتمتع بمكانة استراتيجية وحيوية مهمة، وتربطها علاقات مميزة مع الولايات المتحدة، حيث تستضيف قطر أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الخارج، وتطل عمان على مضيق هرمز الاستراتيجي، الذي يشكل بوابة الخليج ومعبرا لـما يقارب 40 في المائة من نفط العالم، فيما تقيم الإمارات علاقات استراتيجية متينة مع الولايات المتحدة.

حيثيات الزيارة

هناك شكوك كثيرة حول إمكانية استجابة دول الخليج لمطالبات وزيرة الخارجية الأمريكية، بخصوص تشديد العقوبات على إيران، ومرد ذلك يرجع إلى انزعاجها من انهيار عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط، بسبب إمعان الطرف الإسرائيلي في المضي بسياسة الاستيطان والاحتلال، والذي اعترفت به الإدارة الأمريكية رسميا، فضلا عن انزعاجها كذلك من تسريب البرقيات الدبلوماسية الأمريكية عبر موقع ويكيليكس الإلكتروني، حيث لن تستطيع الوزيرة كلينتون فعل شيء مؤثر حيال الانزعاج الإقليمي من تسريبات ويكيليكس، على الرغم من أن الزيارة تعتبر في هذا السياق محاولة ترميم للضرر الذي لحق بالعلاقات الأمريكية مع دول المنطقة بسبب التسريبات وانهيار عملية السلام في الشرق الأوسط. وعليه، فإن إدارة الرئيس باراك أوباما باتت تواجه عقبة، تتمثل في وجود تضارب بين أولويات أجنداتها وأولويات أجندات دول منطقة الخليج، من جهة أن تشديد العقوبات المفروضة دوليا على إيران، التي تريد السيدة كلينتون من دول الخليج أن تتعهد بتنفيذها وتشديدها، ليست في أعلى قائمة أولويات دول الخليج العربي، التي نفذت، من قبل، العقوبات الدولية التي فرضت على إيران بسبب برنامجها النووي، وتسعى هذه الدول في الوقت نفسه إلى التهدئة والسلام بوصفهما على رأس جدول أولوياتها.
أما من جهة الملف العراقي، فإن سعي وزيرة الخارجية الأمريكية، إلى حشد الدعم للحكومة العراقية الجديدة برئاسة نوري المالكي، سيواجه أيضا بتردد من طرف دول المنطقة، وبالتالي ستحاط الزيارة بهالة من التصريحات التي تهدف إلى إخفاء السلبيات والاختلافات في العلاقات الأمريكية مع دول الخليج، وإظهار الايجابيات والتوافقات الحاصلة في المستقبل المنظور والقريب.
وعلى ضوء ما تقدم، فإن هناك من المراقبين والمحللين السياسيين من يعتقد بأن تصادما ممكنا قد يحدث في وجهات النظر بين الإدارة الأمريكية الحالية ودول المنطقة، الأمر الذي سيكون له تأثير كبير في المستقبل القريب على حجم الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الخليج، وعلى التزامات الإدارات الأمريكية المتعاقبة وفق ما يسمى "مشاركة المسؤولية" في منطقة الخليج.

إثارة الهواجس

لا شك في أن مطالبة الإدارة الأمريكية دول الخليج بتشديد العقوبات المفروضة على إيران، يترافق مع إثارة الهواجس الأمنية لديها حيال الملف النووي الإيراني. وتجد هذه الهواجس متحققة في مؤشرات عديدة، ولعل أهمها هو تزايد مشتريات دول المنطقة للأسلحة الأمريكية، والتي تصل قيمة صفقاتها إلى عشرات الملايين من الدولارات، وتدعمها إدارة الرئيس باراك أوباما، وتسعى جاهدة إلى الحصول على إقرار الكونجرس لها. لكن دول الخليج تعتبر أن هذه الأسلحة تهدف في الدرجة الأولى إلى تعويض التناقص في الوجود الأمريكي في المنطقة، وخاصة التناقص في سلاحي الجو والدفاع الجوي، حيث يفضي الانسحاب الأمريكي من العراق إلى تقلص الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة، وسيستمر حتى ينحسر على غرار انحسار الوجود العسكري البريطاني في منطقة الخليج في أواخر ستينيات القرن الـ 20 الماضي. وهو عامل يفسر إلى حدّ كبير سعي دول الخليج العربي إلى شراء الأسلحة الأمريكية وغير الأمريكية، إضافة إلى تخوف هذه الدول من احتمال ضرب إيران عسكريا من طرف إسرائيل، وما سيرتب عليها من تداعيات وإرهاصات.
والواقع هو أن التطورات الإقليمية، التي عرفتها المنطقة منذ قيام الثورة الإيرانية، دفعت دول الخليج إلى اتخاذ إجراءات ألزمتها إعادة ترتيب حساباتها الاستراتيجية والأمنية، حيث درجت قمم مجلس التعاون الخليجي على تناول الملف الأمني، بوصفه الملف الأكثر صعوبة والأكثر أهمية والأكثر تعقيدا بالنظر إلى أسباب عديدة. وقد أعفى، عمليا الوجود العسكري الأمريكي في الخليج دول الخليج من القيام بأي دور فاعل في مسألة أمن المنطقة. لكن، بالرغم من أن الوجود العسكري الأمريكي عمل على طمأنة هذه الدول، بعض الشيء، فيما يتعلق بمسألة الأمن، إلا أنه كان على الدوام مبعثا لعدم الاستقرار لاعتبارات عديدة، وخصوصا مع تزايد موجة العداء لكل ما هو أمريكي لدى غالبية شعوب المنطقة؛ لذلك كان لا بد من العمل للحفاظ على أمن المنطقة، بدلا من اعتبارها قوة تبطن عداءً خفيا لبعض دول المنطقة.
ومن جهتها، حاولت القيادات الإيرانية تقديم التطمينات، في مناسبات عديدة، لدول الخليج على هواجسها الأمنية المبررة حيال البرنامج النووي الإيراني، معتبرة أنه لا يوجد ما يدعو للقلق حيال إيران، وأن برنامجها النووي ذو طابع سلمي مدني.
ولا شك في أن البرنامج النووي الإيراني يدخل ضمن مسببات ومهددات الاستقرار الإقليمي في منطقة الخليج، ويسهم في تكريس الخلل القائم في موازين القوى بين إيران ودول الخليج العربي، خصوصا إن كان يخفي جانبا عسكريا. إضافة إلى أن حقائق الجغرافيا السياسية تشير إلى أن دول الخليج ستتأثر بشكل مباشر في حال نشوب صراع عسكري بين إيران والأطراف المعنية بالقضية النووية، تنعكس آثاره في منطقة الخليج، وستكون آثارا مدمرة على الصُّعد الاقتصادية والتجارية وغيرها، خاصة أن الخيار العسكري ليس مستبعدا من استراتيجيات الولايات المتحدة وإسرائيل حيال الملف النووي الإيراني.

التحاور السري

هناك تقارير إعلامية تشير إلى أن الإدارة الأمريكية التي تحاول إثارة الهواجس الأمنية لدول الخليج تلتقي، في الوقت نفسه، مع بعض القيادات الإيرانية وتحاورها سرا؛ بغية الوصول إلى صفقة تفاهم معها تنهي مشكلة ملفها النووي.
ولا يخفي الساسة الإيرانيون سعيهم إلى التفاهم والحوار، وإبرام الصفقات، سواء مع ساسة الولايات المتحدة أم مع ساسة دول الاتحاد الأوروبي وسواها، وهو ما أعلنه قادة هذا النظام في أكثر من مناسبة، وفعلوه وطبقوه خلال غزو واحتلال أفغانستان واحتلال العراق أيضا. والغاية من سعيهم هذا هو حصولهم على شرعية الاعتراف الدولي بنظامهم واحترام خيارته ومصالحه، وبالتالي وقف محاولات تغييره، واحترام الدور الإقليمي الإيراني.
وكان العراق من أسهل حلقات في التفاهم الأمريكي - الإيراني، وذلك بالنظر إلى حرص الإدارة الأمريكية الحالية على الانسحاب من العراق بأسرع وقت ممكن. في خضم تنفيذها سحب قواتها العسكرية من العراق، حيث وجدت في التجديد لنوري المالكي بعض المنافع التي تخدم خططها في العراق؛ كونه سيضمن لها احترام وتنفيذ مختلف الاتفاقات والترتيبات التي أبرمتها مع الحكومة السابقة، لكن الأهم هو اعتقادها بأن تشكيل المالكي للحكومة الجديدة سيضمن حياد إيران وسورية، ودفعهما للتعامل بشكل إيجابي معها. وهو أمر تنظر إليه الإدارة الأمريكية ببالغ الأهمية ضمن سياق سلاسة وسلامة ترتيباتها في العراق، على مختلف المستويات، السياسية والأمنية والعسكرية، حيث الأولوية تعطى للخطط الأمريكية قبل الانسحاب وبعده.
وتشير معطيات الواقع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، الذي يولد حقيقة صلبة على أرض الواقع، إلى أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي يسارعان لقبول إيران كقوة نووية، وإقليمية، ويضع ساستها سيناريوهات التعايش معها، وتلبية حاجاتها. وقد بدأ الحديث عن هذه المعطيات، أخيرا، بعد كشف وسائل الإعلام الغربية عن وجود لقاءات ومفاوضات سرية تجريها الولايات المتحدة مع إيران. وهناك من يؤكد بأن هذه المفاوضات بدأت مع تسلم الرئيس الأمريكي باراك أوباما منصبه في البيت الأبيض، وتنسجم مع المعطيات الأمريكية التغيرية التي وعد بها أوباما.
ويرى بعض الخبراء والمحللين السياسيين في هذه المفاوضات بلورة أمريكية - إيرانية لما يشبه صفقة أو تفاهمات، ترتبط بتقاسم النفوذ في المنطقة بينهما، وذلك بعد عزم الولايات المتحدة على الانسحاب من العراق. والمقابل هو الاعتراف بالبرنامج النووي الإيراني والتعايش معه. ولا شك في أن التقارب الأمريكي - الإيراني سيخلق خللا استراتيجيا وعسكريا في المنطقة العربية، وسيكون هذا الخلل لصالح إيران، ولصالح الطموحات الإيرانية، التي تتعلق بأمنها القومي، ولسعيها إلى كسر الحصار الأمريكي والغربي بشكل عام، وإلى زيادة أهمية دورها الإقليمي بالتداخل مع ملفات وقضايا عربية أخرى على مستوى الخليج أو لبنان أو داخل فلسطين. ومع ذلك، فإن من المستبعد حدوث تقارب أمريكي - إيراني في الوقت الحالي؛ لأن هذا التقارب يعني تخلي إيران عن مشروعها النووي من أجل هذا حدوث التقارب، إضافة إلى تخليها عن حلفائها في المنطقة. ولا يمنع ذلك مع حدوث تقارب، بل ويمكن أن تحدث تهدئة في تناول الملف النووي الإيراني والملفات الإقليمية الأخرى.
ولا حاجة إلى التأكيد أنه في عالم السياسة هناك على الدوام اختلاف بين الخطاب الشعبوي المعد للاستهلاك الداخلي وبين المحادثات والاتفاقات السريّة التي تجريها الأطراف المتنافسة خلف الكواليس ومن خلال القنوات السرية. إضافة إلى أن المصالح الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وبين إيران تتقاطع في أكثر من مفصل، حيث تفيد حالة اللاّ حرب واللا سلم بينهما لكلا الطرفين، كما أن تأمين إمدادات النفط في الخليج يشكل مطلبا مشتركا بينهما.
وفي المقابل، يريد الأمريكيون من دول الخليج أن تسهم في عزل إيران؛ كي يكون قرار العقوبات الدولي مؤثرا، لكن واقع الحال يكشف أن الخطط الأمريكية بشأن المنطقة لا توفر أساسا ملائما لتوفير الاستقرار، وأن جولات وزيارات وزراء الخارجية الأمريكية للمنطقة لا تضيف جديدا، يؤمّن مقاربة جدية لملف الصراع الرئيس في المنطقة، ولا تعيد ترتيب اهتمامات الإدارة الأمريكية بما يؤمّن - بشكل متوازن - مصالح شعوب ودول المنطقة والمصالح الأمريكية. ولا أعتقد أن زيارة هيلاري كلينتون الحالية لبعض دول الخليج تبتعد عن هذا الإطار، كما أن دول الخليج مجتمعة تدرك أن إمكانية الحوار والحلول الدبلوماسية مسألة مهمة في العلاقات الدولية والإقليمية؛ ولهذا فهي غير متشجعة لترى وعلى سبيل المقايضة حلا للقضية الفلسطينية مقابل إشعالها في إيران، خاصة مع تراجع الدور الأمريكي الراعي للعملية السلمية وفي ظل فرعنة السياسات الإسرائيلية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي