حديث في الاستراتيجيات.. الأمن القومي الأمريكي نموذجاً
في مقال الأسبوع الماضي تناولت الاستراتيجيات وفق الظروف والأزمنة التي تمر بها المجتمعات, مع الإشارة إلى استراتيجية الأمن القومي الأمريكي حسب تقرير البيت الأبيض, وأشرت إلى المفهوم الشمولي الذي تتبناه الولايات المتحدة, حيث إن الأمن القومي الأمريكي لا يتحقق إلا من خلال توظيف عوامل عدة, وليس مقتصراً على الجانب العسكري, الذي قد يتبادر للذهن للوهلة الأولى. وبهدف تناول الركائز السبع المتبقية للأمن القومي الأمريكي يحسن أن نشير إلى أن الممارسات الأمريكية في أرجاء العالم وفي سياساتها في مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة, كشفت أن الكرامة الإنسانية تلاشت مع هذه الممارسات كركيزة أكدها التقرير.
المبدأ الثاني من مبادئ الأمن القومي الأمريكي ينص على تقوية الحلفاء بهدف هزيمة الإرهاب العالمي والعمل على منع الهجمات على أمريكا وأصدقائها, كما يلاحظ فإن صياغة العبارة تؤكد الدور المحوري لأمريكا, حيث إن قوة الحلفاء مصدرها أمريكا, كما أن تحديد الهدف جاء كجزء من استراتيجية أمريكية يتحرك الآخرون بهدف خدمة هذا الهدف. وكأني بهذا المبدأ يشل حركة حلفاء أمريكا, ويربطهم بأمريكا قوة وضعفاً, وهدفاً وآليات, وتحديداً للعدو, ولذا جاء مفهوم الإرهاب مبهماً وعاماً, وهذا يتفق مع رفض أمريكا إعطاء تعريف محدد للإرهاب ما يعطيها إمكانية تعريفه حسب مصالحها القومية التي تتم خدمتها بصورة شمولية. ويتأكد هذا المعنى في المبدأ الثالث الذي ينص على منع الأعداء من تهديدها أو تهديد الحلفاء والأصدقاء بأسلحة الدمار الشامل, إذ إن هذا المبدأ يفترض أن أعداء أمريكا هم أعداء أصدقائها وحلفائها, وهذا ليس بالضرورة صحيحاً فقد يوجد عدو لأمريكا لكنه صديق لحليف أو صديق لها, وذلك لأسباب اقتصادية أو سياسية أو ثقافية ودينية, لكن هذا المبدأ تجاهل هذه الأشياء وجعل مصلحة أمريكا المحور الأساسي الذي في ضوئه يتم تحديد الأصدقاء والأعداء والولاءات.
أما المبدأ الرابع فإنه يؤكد على العمل مع الآخرين لإنهاء الصراعات الإقليمية, وكم توقفت, ورددت كثيراً هذا المبدأ, وحاولت أن أصدق عيني خاصة أن تاريخ أمريكا في هذا الشأن مخالف لهذا المبدأ, خاصة في دعمها المستمر لإسرائيل, والمجحف في حق الفلسطينيين والعرب, كما أن موقفها من انفصال جنوب السودان وتأييدها, بل سعيها لهذا الانفصال, كما عملت في السابق على انفصال تيمور الشرقية عن إندونيسيا, أدلة على أن المصلحة القومية الأمريكية وأمنها القومي فوق أي اعتبار, وتختفي وتزول من الوجود كل المبادئ أمام هذه المصلحة. تدشين مرحلة جديدة من النمو في الاقتصاد العالمي من خلال الأسواق الحرة وتحرير التجارة يمثل المبدأ الخامس من مبادئ الأمن القومي الأمريكي, لكن هذا المبدأ يظل نظرياً متى أحست أمريكا أن أسواقها ستكون مكاناً لسلع الدول الأخرى, وما يحدث بين أمريكا والصين من شد وجذب بشأن فتح الأسواق وإغراقها يعتبر شاهداً إضافياً على التحرك الأمريكي المتمركز حول الأمن القومي ولا غير ذلك.
توسيع دائرة النمو والتطور من خلال فتح المجتمعات الأخرى, وتعزيز مقومات الديمقراطية يمثل المبدأ السادس, لكن السؤال المنطقي والبديهي في هذا الشأن: هل الديمقراطية تبنى وتتحقق من خلال القوة وبالقنابل والصواريخ وكل الأسلحة الفتاكة بما في ذلك الأسلحة المنضّبة في اليورانيوم كما حدث في العراق, ولا يزال كذلك في أفغانستان؟ سؤال محير يصعب على العقل السوي استيعابه إلا إذا استدرك وتذكر أن هذه مبادئ وطن اسمه أمريكا, نظامها قائم في الأساس على المبدأ النفعي, الذي أصبح محور الارتكاز في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
بناء أطروحات وأجندات أفعال تعاونية مع مراكز القوى العالمية هو المبدأ السابع الذي تقوم عليه فلسفة الأمن القومي الأمريكي, وما من شك أن المبدأ الميكافيلي هو ما يوجه أمريكا في هذا المبدأ وغيره, إذ لا صديق مطلقا, ولا عدو مطلقا, بل إن المصلحة هي الأساس الذي توجه كل الأنشطة السياسية والدبلوماسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية, بل حتى المعرفية بهدف خدمته وتحقيقه بشتى الأساليب والطرق, ودونما اعتبار لأخلاقية الممارسة من عدمها طالما أن المصلحة الأمريكية متحققة.
المبدأ الثامن والأخير يتمثل في إعادة تشكيل وصياغة المؤسسات الأمريكية, وجاءت المؤسسات على إطلاقها, أي كل ما يمكن أن يتصوره الإنسان من مدنية وعسكرية وخدمية وإنتاجية, وذلك بغرض مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين, وبما يضمن تحقيق الأمن القومي الأمريكي بمفهومه الشمولي, ولعل المرونة في التفكير وكذلك الإجراءات تشكل سمات بارزة في النظام الأمريكي, وبما يكفل سرعة تكيفه مع الظروف والمستجدات, وكذلك ما يتصور من التحديات, وهذا ما مكن أمريكا خلال العقود السالفة من الهيمنة العسكرية والاقتصادية والمعرفية, وهذه كلها أدوات تخدم الأمن القومي الأمريكي سواء العالمي أو الداخلي, وفيها من الدروس والعبر ما يساعد على فهم طريقة التفكير, وعلى فهم كيف تبنى الاستراتيجيات, وكيف تتغير, وفق قراءة واقعية, وبعقل مرن واسع التفكير, وإن لم يكن عادلاً في كثير من الحالات.