السكان والاقتصاد والتخطيط للمستقبل

مرت مسيرة الاقتصاد السعودي خلال نصف قرن بعدة مراحل، بدءا من محدودية الموارد، ثم الوفرة النفطية الكبيرة، ثم تراجع كبير في الموارد استمر على مدى 15 عاما، ثم وفرة أخرى بدأت منذ بداية العقد الأخير واستمرت إلى الآن. وكل مرحلة كانت لها معالمها التي تميزها عن المرحلة الأخرى، فالأولى كانت مرحلة التأسيس لأجهزة الدولة الرئيسة، ومرحلة الانتقال إلى المدنية الحديثة، وهذا تعزز بالوفرة النفطية التي بدأت منذ نهاية السبعينيات الميلادية، وكانت فرصة كبيرة لإحداث تحول كبير في مستويات المعيشة للمواطن السعودي وفي الخدمات المقدمة له. وتبعت ذلك مرحلة ركود طويلة قاربت 15 عاما ترافقت مع تغيير ديموغرافي كبير تمثل في نمو كبير للسكان؛ ما سبب ضغطا كبيرا على موارد الدولة. ثم جاءت المرحلة الأخيرة، التي تعززت فيها موارد الدولة وبدأت بالتوسع في توفير الخدمات العامة والبنى التحتية للدولة.
الجانب الديموغرافي كان ملازما لكل مرحلة من حيث تشكيلها، ومن حيث وضع بصماته عليها، سواء من حيث التوسع في معدلات الإنفاق العام، أو من حيث معدلات النمو الاقتصادي. ففي المرحلة الأولى كان التعداد السكاني محدودا، وبالتالي كان للتوسع في الإنفاق العام خلال تلك المرحلة، ومرحلة السبعينيات التي تلتها، أثر ملحوظ في تحسين ظروف المعيشة للمواطن. بل إن تلك المرحلة مثلت مرحلة بناء المدخرات بالنسبة للمواطن، كما مثلت فرصة لبزوغ أسماء تجارية لامعة ما زالت موجودة حتى الآن. المرحلة التي تلتها، التي بدأت منذ منتصف الثمانينيات، مثلت بداية لتحول كبير في معدلات النمو السكاني، وبالتالي مستويات الطلب على الخدمات العامة. لكن هذه المرحلة التي استمرت حتى نهاية التسعينات، كانت مرحلة تراجع لأسعار النفط، وبالتالي إيرادات الدولة؛ ما أدى بدوره إلى تراجع كبير، أو شبه توقف لعجلة الإنفاق على البنى التحتية الجديدة، أو حتى توسعة البنى التحتية القائمة في ذلك الوقت لتتلاءم مع زيادة الطلب على الخدمات العامة.
منذ بداية الألفية الثالثة، حدث تحول كبير في النمو الاقتصادي العالمي؛ ما أسهم في زيادة الطلب على النفط، ومن ثم زيادة أسعاره. وهذا مثل فرصة حقيقية لحدوث طفرة جديدة في المملكة، فزيادة الإيرادات الحكومية شجعت الدولة على التوسع في الإنفاق الحكومي لمقابلة الطلب على الخدمات العامة، لكنه كان توسعا مدروسا، حيث لم تزج الدولة بكل إيراداتها لمقابلة هذا الطلب، إنما عملت في الوقت نفسه على تعزيز الاحتياطيات وتخفيض الدين العام، الذي تراكم خلال الفترة التي سبقتها (منتصف الثمانينيات ونهاية التسعينيات). لكن هذه الطفرة في عائدات النفط، لم يلمس أثرها المواطن في شكل زيادة مباشرة في مدخراته مثل الطفرة الأولى، وذلك على الرغم من أنه لمسها في شكل توسع كبير في مشاريع البنية التحتية، كالمدارس والمستشفيات والطرق، والخدمات العامة الأخرى، كالكهرباء والمياه والصرف الصحي، فلماذا لم يلمسها المواطن بشكل مباشر؟
عاملان أساسيان أسهما في ذلك، أولا كما أشرت العامل السكاني، حيث إن المقارنة بين الطفرتين بالأسعار الحقيقية يجعلهما قريبتين من حيث الموارد والإنفاق، لكن الفرق بينهما يتمثل في أن التعداد السكاني في الثانية أكبر بكثير (على الأقل ثلاثة أضعاف) من الأولى، وهنا بالتحديد لا يمكن احتساب عدد السكان بالأسعار الحقيقية كالعوائد، فالسكان هم السكان في الأولى والثانية، متطلباتهم الأساسية واحدة، إن لم تكن ازدادت في الثانية عنها في الأولى. العامل الثاني، هو شبه التوقف في عجلة الإنفاق على البنى التحتية خلال فترة الركود التي تبعت الطفرة الأولى، التي أسهمت في مراكمة عبء كبير على المرحلة الثانية، ومن ذلك على سبيل المثال الدين العام الكبير. حيث إن عوائد الطفرة الأولى كانت تركز فقط على الإنفاق الجاري أو على البنى التحتية، والثانية على العكس تركز على الإنفاق الجاري، والإنفاق على البنى التحتية، وصيانة البنى التحتية التي تأسست خلال الطفرة الأولى، وأخيرا سداد الدين العام المتراكم.
إذاً في كل مرحلة، كانت الظاهرة الديموغرافية تنعكس بشكل واضح على كل المؤشرات الاقتصادية بلا استثناء. فلنأخذ البطالة على سبيل المثال، فتراكم البطالة كان لسببين رئيسيين، الأول، كما أشرت يعود إلى زيادة النمو السكاني للمواطنين، والثاني يعود إلى زيادة كبيرة في عدد السكان الأجانب العاملين في المملكة، وقارن ذلك بما كان الوضع عليه خلال فترة الطفرة الأولى، حيث كان التعداد السكاني صغيرا، كما كان عدد الأجانب العاملين في المملكة محدودا جدا. هذا التحليل، يقودنا إلى محاولة استشراف المستقبل، وما هي أهم تحديات المرحلة القادمة، التي ستتطلب استثمارات كبيرة جدا، واستعدادا من الآن لمواجهتها. فكغيرها من الدول، مرت المملكة وتمر حاليا بمرحلة نمو سكاني كبير سيستمر لفترة من الزمن، وسيستقر بعدها، قبل أن يبدأ في التراجع في مرحلة متقدمة (حالة الصين واليابان على سبيل المثال) .. لكن ما تبعات ذلك؟ أولا، تحسن الخدمات الصحية، سيسهم في ارتفاع متوسط العمر المتوقع عند الولادة، وهذا واضح في المملكة حاليا من خلال المؤشرات السكانية، وهذا سيتطلب استثمارات كبيرة جدا في قطاع الرعاية الصحية قد تفوق قدرة الدولة على الوفاء بها في المستقبل. والثاني هو أن استمرار الهيكل السكاني على هذا الشكل بوجود عمالة أجنبية كبيرة على أرض المملكة، وبطالة كبيرة بين الشباب السعودي، سيخلق جيلا سيكون عبئا على الأجيال التي ستليه، وإن استمر الحال على ما هو عليه، فيصعب تصور تحقيق الاقتصاد معدلات نمو اقتصادي مقبولة في ظل تعطل إنتاجية ما يقرب من 10 في المائة من قوته العاملة.
الخلاصة، أننا نحتاج إلى استراتيجية واضحة للتعامل مع هذه التحديات السكانية في المستقبل، إن كنا فعلا نأمل في استمرار تحقيق التقدم والاستقرار الاقتصادي الذي نتمناه لنا ولأبنائنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي