الموساد الإسرائيلي.. فن إدارة الفوضى في الدول المجاورة

لا شك في أن إسرائيل تشكل خطراً دائماً، يهدد الأمن القومي العربي، ويستهدف استقرار وتركيبة جميع البلدان العربية، بما فيها تلك التي أبرمت معها اتفاقيات سلام ثنائية، وبالتالي، فإن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية، الموساد، يحاول على الدوام العبث بأمن سورية ومصر ولبنان والأردن وسائر البلدان العربية الأخرى، بل وامتدت علمياته القذرة إلى الإمارات، حيث نفّذ عملاء الموساد عملية اغتيال القيادي في حركة ''حماس'' محمد المبحوح في مدينة دبي، التي تمكنت شرطتها من كشف خيوط العملية وفضح ملابساتها.
وقد أثبتت الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية، خلال السنوات القليلة الماضية، أن جهاز الموساد كثّف من خططه وعملياته، الهادفة إلى إشاعة وتعزيز الفوضى الأمنية في كل من مصر والأردن على وجه التحديد لارتباطها بالقضية الفلسطينية، فضلاً عن استهداف العراق ولبنان وسورية وسائر الدول المجاورة. يضاف إلى ذلك التهديدات الإسرائيلية التي تستهدف جميع الأراضي العربية، حيث عُقد أخيرا في تل أبيب مؤتمر صهيوني برئاسة عضو الكنيست ''أرييه ألداد''، وكان شعاره ''الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين''، ولا ننسى محاولات عملاء الموساد استغلال الحساسيات في الداخل الأردني، وإثارة النعرات ما بين الفلسطيني والأردني، في ظل ظروف اقتصادية مأساوية، وشح في الدعم الدولي، وتهديدات إسرائيلية باجتياح قطاع غزة. وكذلك في ظل انسداد أفق التسوية السلمية، وفشل المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، بل وفشل إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في الحصول على أي تنازل إسرائيلي، بخصوص الإمعان في مواصلة سياسة الاستيطان والاحتلال.

شبكات التجسس
يشير اكتشاف العديد من شبكات التجسس، أخيرا، التي تعمل لصالح إسرائيل في عدد من البلدان العربية، وخاصة في مصر، إلى أنه وبعد مضي أكثر من 30 عاماً على توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، فإن إسرائيل مازالت تنظر إلى مصر بوصفها بلداً عدواً، وأن مفهوم الأمن الإسرائيلي مازال هو نفسه الذي نشأ مع قيام الكيان الصهيوني في عام 1948، ويتعامل مع جميع الدول العربية بوصفها محيطاً معادياً يجب ضربه واختراقه، وزرع الفتن فيه، والقيام بعمليات الاغتيال والتخريب الاجتماعي والاقتصادي والمعنوي. ومازال هذا المفهوم يحكم السلوك الإسرائيلي حيال جميع الدول العربية، سواء تلك التي وقّعت معها معاهدة سلام أم تلك التي لم توقّع.
وقد سربت الأوساط الأمنية الإسرائيلية إلى وسائل الإعلام معلومات، تفيد بأن رئيس الوزراء الصهيوني، اليميني المتشدد، بنيامين نتنياهو، اتخذ قراراً، فور وصوله إلى رئاسة الوزارة، مع نخبة قليلة من وزرائه، بإعادة نشاط الموساد إلى سابق عهده، وبثّ موجة من الذعر في أوساط الأنظمة العربية، التي مازالت مقتنعة بأن الموساد إذا قرر، فإن بإمكانه أن يزعزع الأمن في معظم البلاد العربية. ويتلاقى ذلك مع العدد الكبير من الجواسيس الذين تمّ اكتشافهم، خلال السنة الماضية، من طرف أجهزة الأمن اللبناني والمقاومة اللبنانية، من بينهم الضابط المتقاعد فايز كرم، المقرّب من الجنرال ميشيل عون رئيس التيار الوطني الحر في لبنان. إضافة إلى إعلان الجيش اللبناني في الخامس عشر من كانون الأول (ديسمبر) الماضي عن تفكيك منظومتي تجسس إسرائيليتين، كانتا مزروعتين على قمتي جبلين، والهدف منها تصوير وتحديد أهداف أرضية و ذلك قبل بضع أسابيع من إعلان الجيش اللبناني، عن تفجيره جهازي تنصت في الجانب اللبناني من منطقة حدودية مع إسرائيل في جنوب لبنان.
ولا شك في أن لبنان يشكل هدفاً مباشراً للموساد الإسرائيلي بشكل خاص، من أجل العبث بأمنه وتخريبه من الداخل، باستخدام وسائل عديدة، من اغتيالات وافتعال أحداث تساهم في خلخلة التركيبة الاجتماعية اللبنانية، وإشعال نيران الفتنة الطائفية والمذهبية، كي يرجع شبح الحرب الأهلية اللبنانية إلى واجهة الوضع اللبناني من جديد.
وهناك تقارير تتحدث عن عديد من الشركات الصهيونية التي تعمل في العراق تحت تسميات شركات استشارية، ومقاولات، وتعهدات، ومراكز بحوث، وقوات خاصة تعمل في شركات أمنية من مختلف الدول. وتؤكد أن المعلومات المسربة إلى وسائل الإعلام أن أكثر من 100 شركة صهيونية تعمل داخل العراق، وتتحدث عن عمليات تصفية لعلماء العراق يقوم بها الموساد الإسرائيلي منذ الغزو الأمريكي واحتلال العراق في عام 2003.
وتشكل مصر هدفاً مميزاً للاستخبارات الإسرائيلية، على الرغم من وجود معاهدات ''كامب ديفيد'' التي تربطها مع إسرائيل، حيث تمّ، خلال السنوات الماضية اكتشاف عديد من شبكات التجسس الإسرائيلية، إلى جانب المؤامرات الإسرائيلية التي تهدف إلى تخريب الشباب المصري عن طريق ترويج المخدرات، ومؤامرات أخرى من أجل تخريب الاقتصاد المصري من خلال تصدير آفة القطن، بما يعني ضرب المنتوج الأبرز في مصر، إلى جانب محاولات محاصرة مصر بواسطة التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا وخصوصاً في دول حوض النيل، من خلال التأثير على حصتها من مياه النيل التي تعتبر بمثابة شريان حياتها وحياة جميع المصريين.

اتساع ساحة العمليات
لا يخفي قادة وضباط الموساد استهداف مصر، حيث صرح رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق، عاموس يادلين، خلال مراسم تسليم مهام منصبه للجنرال أفيف كوخافي، بأن مصر هي الملعب الأكبر لنشاطات جهاز المخابرات العسكرية والعامة الإسرائيلية. وأضاف بأن العمل في مصر ''تطوّر حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979، حيث أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً ومنقسمة إلى أكثر من شطر، بغية تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، ولكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسني مبارك في معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في هذا البلد''.
وعلى الرغم من العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، التي تربط بين مصر وإسرائيل منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد، التي أبرمت في عام 1979 برعاية الولايات المتحدة، إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لا تكل ولا تملّ في محاولاتها الدائمة لزرع جواسيس وشبكات التجسس في الأراضي المصرية، الأمر الذي يدعم وجهة النظر، التي تعتبر أن اتفاقيات ''كامب ديفيد'' حولت فقط، حالة الحرب بين إسرائيل ومصر من حرب معلنة ساخنة إلى أخرى باردة، تتم إدارتها من خلف الكواليس وبشكل غير معلن.
ولم تكف إسرائيل عن تجنيد جواسيس لها في مصر، ومعها سائر البلدان العربية، وهناك تقارير مصرية معلنة، تتحدث عن كشف الاستخبارات المصرية ما يقارب الـ 30 شبكة تجسس إسرائيلية على الأراضي المصرية منذ تسعينيات القرن الـ 20 الماضي. وكان عام 1996 قد شهد القبض على عزام مصعب عزام، أخطر جاسوس إسرائيلي، وحكم عليه بالحبس مدة 15 عاماً. وبقي هذا الجاسوس محط اهتمام قادة العدو الصهيوني، حيث تدخل لإخراجه من السجن ثلاثة رؤساء وزارة صهاينة، هم بنيامين نتنياهو وأيهود باراك وآرييل شارون. وخرج هذا الجاسوس من السجن بعد مرور ما يقارب ثمانية أعوام على حبسه، وذلك بعد إلحاح الإدارة الأمريكية التي توسطت لدى السلطات المصرية للإفراج عنه، وخرج مقابل إفراج إسرائيل عن ستة من السجناء المصريين.
وقدم طارق عبد الرزاق المتهم بالتجسس لحساب الموساد الإسرائيلي معلومات كاشفة ولها دلالتها العديدة، خلال تحقيقات نيابة أمن الدولة المصرية معه، التي نشرتها معظم الصحف المصرية خلال كانون الأول (ديسمبر) الماضي، تشير إلى استهداف الموساد مصر وسورية ولبنان، بما يعني اتساع ساحة العمليات الاستخباراتية الإسرائيلية التي طاولت الصين، حيث جرى تجنيد هذا الجاسوس، حيث يكون عنصر اتصال بين عناصر الموساد، الذين كانوا يديرون حركته من الصين والهند وتايلاند، وبين أحد عناصر الأمن السوري، الذي تم تجنيده لحساب الموساد حين كان مريضاً ويعالج في إحدى مستشفيات باريس. كما جرى تكليفه بغية استدراج رجل أعمال فلسطيني يعيش في جنوب إفريقيا إلى شرق آسيا، إلى جانب تكليفه بالإعلان عن وظائف في شبكة اتصالات وهمية، بهدف جذب وتجنيد الشبان المتقدمين من الدول العربية للعمل لصالح الموساد.
ولا شك في أن فضح أمر عناصر شبكة التجسس الإسرائيلية في مصر وسورية ولبنان يوجه ضربة للموساد الإسرائيلي، ويشير إلى التنسيق عالي المستوى بين أجهزة الاستخبارات المصرية والسورية، والذي نتمنى أن يكون عملها موجهاً على الدوام ضد الموساد وعملائه، وألا تستهدف القوى السياسية المختلفة معها في الرأي والتوجه، والساعية إلى غد أفضل في سورية ومصر وسائر البلدان العربية.
غير أن محاولات إشاعة الفوضى لا تتوقف على البلدان العربية فقط، بل تمتد إلى سائر البلدان التي تساند القضية الفلسطينية. نذكر هنا محاولات عملاء الموساد إدامة التوتر في تركيا، وإثارة التنظيمات الكردية فيها، ودعم إمكانية استقلال كردستان، إضافة إلى التعاون مع اليونان المعادية لتركيا. وقد سبق أن استدعت وزارة الخارجية التركية السفير الإسرائيلي في أنقرة، وسلمته رسالة احتجاج حول تجاوز جهاز ''الموساد'' اللخطوط الحمراء من خلال تدخله في الشؤون الداخلية التركية، في إشارة إلى علاقته المشبوهة مع عدد من اليهود الأكراد في تركيا. وهناك مراقبون أشاروا إلى أن الأجهزة الأمنية ‏التركية رصدت معلومات حول استغلال الموساد عددا من الأكراد اليهود المقيمين في شمال تركيا، حيث يجري تسفيرهم إلى ''إسرائيل''، ويتم تأهيلهم في معاهد صهيونية مختصة في تل أبيب، ثم يعاد زرعهم في إقليم كردستان العراقي تحت غطاء ‏شركات تجارية ومشاريع إنمائية.

تفجيرات الإسكندرية

هناك من السياسيين والمراقبين من يربط بين العملية الإرهابية التي استهدفت كنيسة القديسين القبطية في مدينة الإسكندرية، وبين قوى خارجية، وعلى رأسها الموساد الإسرائيلي، لكن في كل الأحوال وجهت هذه العملية الإجرامية ضربة قوية ومتعددة الاتجاهات إلى مصر، وناسها وتركيبتهم الاجتماعية وتعايشهم التاريخي، وشكلت حدثاً يضاف إلى جملة أحداث أخرى، حصلت من قبل، في العراق وفي لبنان والسودان وسواها من البلدان العربية، ليشير إلى حجم التآكل والنخر والدمار في مجتمعاتنا العربية، وإلى المحاولات المتكررة لإشعال نيران الفتنة والاقتتال الأهلي بين أبناء البلد الواحد من طرف مجموعة من المتشددين أو من طرف الأجهزة الاستخباراتية المعادية، وخصوصاً جهاز الموساد الصهيوني.
ويبدو أن التآكل والخراب في البلدان العربية يطاول مختلف مكوناتها، خصوصاً بعد انحسرت المرجعيات المجتمعية من الدولة إلى التشكيلات ما قبل دولتية، كالطائفة والمذهب والقبيلة. كما يبدو أن استهداف فئة دينية معينة، يشير إلى مقدار تراجع الوعي المجتمعي، وانتفاء الركون إلى الدولة، بوصفها ضامنة للمواطنة ولفكرة المساواة في الحقوق بين جميع المواطنين، وخصوصاً الحق في حرية المعتقد، حيث المساواة هنا ليست مجرة قضية حقوقية فقط، بل قضية مجتمعية بالدرجة الأولى، إلى جانب كونها قضية الدولة، التي يضمنها القانون في دولة القانون. لكن مع الأسف يؤكد هذا الاستهداف أن الدولة عاجزة عن حماية جميع مواطنيها، كما أن بعض أفراد المجتمع لا يملكون الوعي الكافي بالفضاء المجتمعي الذي يتسع للجميع.
وتشير هذه العملية الإرهابية، التي حصلت مع الساعات الأولى للعام الجديد، إلى أننا مقبلون على عام لن يختلف في قساوته عن سابقه، وأن بلداننا العربية مقبلة على خيارات حاسمة، وخصوصاً أن مسببات الفتنة موجودة، وهناك من يريد إشعال نيرانها منذ عقود عديدة. ويمكن لأي منظمة أو مجموعة إرهابية أن تستغل الفجوات الأمنية، كي تحدث الاختراق المطلوب، وخصوصاً على الصعيد السياسي، حيث الاختراق أكبر بكثير من الاختراق الأمني، ويذهب بعيداً في حدوده وفي الركون إلى نظرية المؤامرة. مع أن إلقاء اللوم على الخارج لن يحل المشكلة ولن يذهب الفتنة، ولن يوقف غضب أهالي الضحايا.
ولا شك في أن مدبري هذه العملية، سواء كانوا من التنظيمات الإرهابية أم من الموساد، أرادوا ضرب التركيبة الوطنية المصرية وإدخال مصر في أتون موجة من الاضطرابات والتوترات الطائفية الداخلية، وتحقيق أهداف إقليمية ودولية. ولا ينفع في هذا المجال أن تكون مواجهتهم أمنية فقط، بل يجب تحويلها إلى قضية مجتمعية، لا قضية نظام سياسي فقط، الأمر الذي يتطلب من النظام الحاكم مراجعة دوره وأولوياته وأجندته، وبما يحقق إشراك مختلف القوى الوطنية ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات والمراكز البحثية المستقلة، والمثقفين، وجميع مكونات النسيج السياسي في مصر.
أخيراً، يمكن القول إن محاولات إشاعة الفوضى، أياً كان من يقف خلفها، سواء الإرهاب الصهيوني أم إرهاب المجموعات المتشددة، لا يمكن مواجهتها إلا بتضافر جهود جميع أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة، وبما يحقق المواطنة وقيمها لجميع أفراد ومكونات المجتمع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي