حديث في الاستراتيجيات
الاستراتيجيات التي تسير عليها المجتمعات تختلف باختلاف المجتمعات, والإمكانات المتوافرة لها, سواء كانت إمكانات مادية أو بشرية, وحسب الحقبة الزمنية، ففي أزمنة سابقة انصب اهتمام استراتيجيات بعض الدول على محاربة الأمراض كالعمى والملاريا, وبعض الأوبئة الأخرى التي كانت تنتشر في بعض المجتمعات, كما انصبت استراتيجيات دول أخرى على محاربة الفقر والأمية, على أن هذا لا يعني عدم وجود دول أخرى لا تزال تعاني مشكلة الأمراض أو الأمية, وذلك نتيجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيشها.
في أواخر القرن العشرين, وحين كان الاتحاد السوفيتي على قيد الحياة قبل إعلان وفاته على يد جورباتشوف، الذي طرح ما عرف في وقته البيروستوريكا أو الإصلاح, الذي اصطدم بواقع اجتماعي واقتصادي مرير, ما سرع انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى الدول التي كانت تشكله واستقلال هذه الدول, وتغير على إثر ذلك النظم السياسية والاقتصادية في الدول الجديدة. إن انهيار الاتحاد السوفيتي يشكل درساً في نجاح وفشل الاستراتيجيات التي تضعها الدول لنفسها، أو تضعها دول أو قوى معادية لها وتقع في فخها, وهذا ما حدث حين دخل الاتحاد السوفيتي في استراتيجية سباق التسلح مع الولايات المتحدة وسباق الهيمنة على العالم حتى تدخل الاتحاد السوفيتي في إفريقيا وأمريكا الجنوبية ثم في أفغانستان, التي كانت القشة التي قصمت ظهر البعير.
تأملت في واقع الحال في الوقت الراهن فألفيت أن القاعدة الأساسية في وضع ومجال الاستراتيجيات لا تزال كما كانت حسب الإمكانات المتوافرة وحسب الظروف القائمة، إلا أن عامل تأثير جديد ظهر على الساحة, حيث التأثير الخارجي والاستقطاب, الذي أفقد بعض الدول القدرة على توجيه استراتيجياتها حسبما يخدم واقعها وينسجم مع تطلعات شعوبها.
كما أن الولايات المتحدة وجدت نفسها منخرطة في أنشطة منهكة لاقتصادياتها, وذلك حين فتحت لها الساحة الدولية, ووجدت نفسها سيدة العالم الجديد تتصرف به حسبما تشاء, وبإملاء من الشعور بالقوة, خاصة القوة العسكرية المدعومة بقوة اقتصادية, وقوى ناعمة متمثلة في المعرفة, والإعلام.
مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وجدت الولايات المتحدة نفسها منجرة إلى الانخراط في حروب أفغانستان والعراق, وهذا بدوره أثر كثيراً في الواقع الاقتصادي نظراً للتكلفة التي تحتاج إليها الآلة العسكرية, حيث حدثت الأزمة الاقتصادية, وهذا في ظني درس آخر في الاستراتيجيات لا أعتقد أن مراكز الدراسات الاستراتيجية ولا المفكرين الاستراتيجيين يغفلون هذا الدرس, بل هذه الدروس المهمة, التي بدأت أمريكا تحس بآثارها في كل المجالات السياسية الاقتصادية والاجتماعية.
اطلعت على تقرير بعنوان استراتيجية الأمن القومي الأمريكي صادر عن البيت الأبيض, وكنت قبل هذا التقرير أظن أن الأمن القومي يركز على المجال العسكري, خاصة أن الأخبار التي تصدر من مجلس الأمن القومي الأمريكي كلها ذات طابع عسكري, أو هذا ما يظهر لي. التقرير المذكور غير فهمي الخاطئ, حيث إنه يتناول عدة موضوعات منها العسكري، السياسي، الفكري، الاجتماعي، والاقتصادي، أي أنه ينحو منحى شمولي النظرة, وذلك يعود إلى تداخل هذه المجالات وتأثير بعضها في البعض الآخر.
إن تغير واقع سياسي في بلد أو منطقة من المناطق قد تكون له آثار اقتصادية تطول الولايات المتحدة، وهذا من شأنه أن يؤثر في الأمن القومي الأمريكي، ولهذا نجد سياسات الولايات المتحدة وتدخلاتها العسكرية، ودعمها لأنظمة تتناقض كليا مع المبادئ التي يكررها المسؤولون الأمريكيون كالحرية، والديمقراطية والسوق الحر, كلها تخدم أهداف الأمن القومي دونما اعتبارات للمبادئ، ولعل ما حدث ويحدث في أفغانستان والعراق أكبر دليل على التناقض بين الممارسات والمبادئ المعلنة.
التقرير المشار إليه يعرض ثمانية مبادئ أساسية تشكل محاور الأمن القومي الأمريكي، وتتحرك الجهود السياسية والعسكرية داخل هذه المجالات. أول هذه المبادئ المحافظة على الكرامة الإنسانية، وما من شك أن هذا المبدأ يمثل محورا أساسيا لكل بني آدم أينما وجد, لكن الممارسات في بعض المجتمعات تأتي خلاف ما يشتهيه الناس أو كما يقول الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
إن التأمل في واقع الكرامة الإنسانية يكشف البون الشاسع بين المبادئ المعلنة والممارسات، فها هي الولايات المتحدة تفقد مصداقيتها على أرض الواقع في هذا الشأن، وما حدث في أبو غريب، ومع المعدمين في أفغانستان إلا أمثلة تندى لها الإنسانية لهول ما حدث من دولة طالما دانت أنظمة وانتقدت عادات وتقاليد وثقافات ينظر إليها الأمريكيون على أنها تهين الكرامة الإنسانية, فهل صناع الاستراتيجية في أمريكا يفقهون التباين بين المبادئ والممارسات أم أن كرامة الإنسان الواردة في هذه المادة هي كرامة الإنسان الأمريكي فقط؟ وللحديث بقية في المقال القادم..