التأمين الإلزامي.. لماذا؟
من أكثر المسائل حساسية تلك المتعلقة بالسلوك البشري وكونه محلاً للإلزام والتقييد، فالإنسان متمرد بطبعه وهو يعشق الحرية ويكره التقييد، ولذلك فكثير من متخذي القرارات من المسؤولين وحتى المديرون يترددون كثيراً عند اتخاذ قرار معين فيه ضبط أو تقييد لحرية شخص ما أو جماعة معينة، وذلك خشية أن يكون الضرر المتمثل في الرفض أو الامتثال لهذا القرار أشد تأثيراً من المصلحة المرجوة من القرار نفسه.
وفي الحقيقة فإن الأمر بالإلزام يتوقف كثيراً على جرأة المسؤول ومدى قناعته وقدرته على اتخاذ هذا القرار والإصرار عليه طالما أن لديه رؤية واضحة، وهدفا محددا، واستقراء دقيقا للمصلحة المرجوة من هذا القرار أو ذاك، علاوة على قراءة (معقولة) لما ستكون عليه ردة الفعل من المعنيين بهذا القرار. ولا أجد في هذا الصدد أفضل مثال من القرار المتعلق بتطبيق نظام ساهر رغم الاعتراضات الكبيرة التي صاحبت تطبيق النظام. وقد جاءت هذه الاعتراضات من قِبل شريحة كبيرة من المعنيين وهم قائدو وملاّك المركبات في المملكة، وهي شريحة لا يُستهان بها، ومع ذلك فقد أصبح نظام ساهر واقعاً ينبغي التعامل معه.
وكما أن النظام يُلزم الأفراد بالامتناع عن سلوك معين أو الحد منه فهو أيضاً يُلزمهم ويوجههم نحو القيام بعمل ما وإقرار عقوبة معينة في حالة عدم القيام بهذا العمل. ومما لا شك فيه فإن فكرة الإلزام تعكس في الغالب ما يتوقعه صاحب القرار من ضرورة إيجاد مظهر إيجابي لما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني. وفكرة الإلزام بالتأمين لا تخرج عن هذا التصور حيث يرتبط التأمين الإلزامي بالسعي إلى تحقيق مصالح اجتماعية واقتصادية مهمة نظراً لارتباط التأمين بفكرة التعويض الناشئ عن المسؤولية المدنية أو ما تُعرف بالحق الخاص لدينا. والمسؤولية المدنية تنشأ إما بسبب اقتراف خطأ أو ممارسة نشاط معين يترتب عليه ضرر. ومن المظاهر الإيجابية للسلوك الإنساني في هذا المجال إقرار الإنسان نفسه بأنه وإن كان ضامناً للتبعات المترتبة على سلوكه إلا أن الإلزام بالتأمين على هذا السلوك يُوفر ضمانة أقوى للمتضرر بالحصول على التعويض، لأنه لا يستطيع وفق قدراته الفردية أن يقدم تعويضاً عادلاً ومجزياً للمتضرر فيما لو ترتب على سلوكه أو نشاطه ضرر معين.
وإشكالية رفض التأمين الإلزامي خاصة من طرف أصحاب المهن والنشاطات الخطرة تأتي في الغالب بسبب اعتقاد هؤلاء بأنهم ضحية مشروع قرار جاء ليسلب منهم جزءا من مدخولاتهم لمصلحة شركات التأمين دون فائدة مرجوة من ذلك، وفي هذا تغييب لمصلحة المتضررين الذين قد لا يجدون من يعوضهم عن المخاطر المترتبة على مثل هذه الأنشطة ولا سيما حينما يكون صاحب المهنة غير قادر على دفع تعويضات لهؤلاء المتضررين. فهذا الرفض الذي يبديه أصحاب هذه المهن لا يكون إلا من منطلق عدم الخضوع لأي إلزام بدفع مبلغ مالي لا يرون أي فائدة له، وقد يكون هذا بسبب الثقة المفرطة بعدم حصول أخطاء منهم تستوجب مسؤوليتهم، ومن ثم التزامهم بالتعويض، أو أنهم لا يدركون القيمة الحقيقية للتأمين وأنه يجنبهم الخسائر المستقبلية المرتبطة بخطر ممارسة المهنة.
ولعل هناك سببا ثالثا يتمثل في اعتقادهم بأن شركات التأمين ستماطل في دفع التعويضات المستحقة ومن ثم هم من يقومون في النهاية بدفع التعويض للمتضررين علاوة على ما دفعوه من أقساط لشركات التأمين.
وفي اعتقادي أن كل ما ذُكر يمكن تجاوزه من خلال إدراك أصحاب هذه المهن لأهمية التأمين، وبالنسبة للسبب الأخير فهو لا يخلو من وجاهة، ولذلك ينبغي أن تكون القواعد الخاصة بالتأمين الإلزامي صارمة في تقرير مسؤولية شركات التأمين عن التعويض وذلك حماية للطرف الأضعف وهو المواطن المتضرر من الممارسات المهنية الخاطئة.