رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


البرلمانات العربية.. دروس لا يُستفاد منها

جميع البرلمانات العربية في مأزق مع القانون، رغم أنها السلطة التشريعية التي تسنه وتفسره، ولعل معاناة معظم الدول العربية مع برلماناتها دليل كاف على حجم المشكلة، فبالكاد اتفقت الأطياف العراقية على تشكيل حكومة بعد مضي نصف عام على الانتخابات التشريعية التي لم تغير شيئا وكأنها لم تكن، فنتائجها غير ذات قيمة؛ لأن نصوص القانون تعطي لكل طرف تفسيرا مختلفا، ما جعل الأمر برمته يعود إلى نتائج التحالفات اللاحقة على الانتخابات وليس إلى حكم الدستور.
وفي الكويت معاناة من نوع آخر، فرغم وضوح القانون وعدم وجود أي احتمالات لتعدد معاني المادة الواحدة فيه، إلا أن سلوك بعض الأعضاء حولهم إلى ثائرين برلمانيين وليس مجرد أعضاء يملكون حق الاقتراح والتصويت والاعتراض أو التحفظ، ما أخرج العملية برمتها إلى ساحة بعيدة كل البعد عن أعمال البرلمان، وفتح باب المزايدة حتى تحولت تلك التجربة الخليجية المبكرة إلى استنزاف للطاقات، وجري خلف محاولات إسقاط كل حكومة، ومع كل محاولة يتم حل البرلمان حتى بلغ رقما قياسيا في مدة وجيزة.
أما في مصر وهي البلد الذي صاغ أساتذته معظم دساتير البلاد العربية أو أسهموا فيها على قدر مختلف، فإن القانون هو الوسيلة التي يستخدمها كل طرف لفرض شرعية وجهة نظره، فهناك مواد قانونية تجافي المنطق، وأخرى تكشف عن تفصيلها مسبقا وكأن خياطا ماهرا وضعها بعناية فائقة لتلائم حالة معينة، رغم أن من أهم مميزات القاعدة القانونية العموم والتجريد، فهي ذات ضوا بط موضوعية مجردة من التشخيص الذي يفقدها صفة القاعدة لتكون بمنزلة منحة مهيأة تنتظر من تناسب مقاسه.
وفي لبنان الحالة أكثر تعقيدا لأسباب واضحة، فالانقسام وعملية الشد والجذب جعلت من القانون محايدا يرقب من يفرض واقعا يصبح للقانون فيه قيمة، حيث لم يعد الرجوع إليه سوى مزيد من سكب الزيت على النار، وفتح لحوارات عديمة الجدوى، ما جعل عملية الإصلاح السياسي أهم من الرجوع إلى نصوص القانون الذي هو خارج المشهد تماما.
ولعل العيب ليس في قانون السلطة التشريعية، ولكن يبدو أن الفكرة بكاملها مقتبسة اقتباسا مخلا ونقلت نقلا شكليا بلا مضمون، فالعرب والمسلمون عموما لم يعرف تاريخهم فكرة البرلمان المنتخب أو حتى المعين، ففكرة السلطة التشريعية رغم أنها ليست مرفوضة نظريا إلا أنه يمكن استيعابها تحت مفهوم الشورى، ولكنها مرفوضة في تطبيقها وممارستها، حيث لم يسبق لأي برلمان عربي أن أسهم في حل أزمة دستورية، بل هو مكان الأزمة وقلبها العاصف، وفيه تدور معارك حوارية وتقاذف يبعد أحيانا عن الذوق العام فضلا عن سيره في غير سياق المصلحة الوطنية.
إن القانون ليس مجرد نصوص جامدة أو عبارات يفسرها كل طرف وفق الزاوية التي يرى منها مصلحة تياره السياسي أو الحزب الذي ينتمي إليه، بل هو أعراف وتقاليد عريقة حتى وإن كانت غير مكتوبة، وهناك أمثلة كثيرة على نجاح برلمانات عريقة ليس لها قانون مكتوب، فالعرف قانون ملزم وله أهميته؛ لأنه ذو طابع أدبي واجتماعي، ومن احترامه يكتسب أعضاء البرلمان احترامهم، وفي ظل تقاليده يجدون صوتا يسمع لوجهات نظرهم، وتحت مظلة تلك البرلمانات يمكن أن تكون هناك سلطة تشريعية ذات وظيفية إيجابية.
لقد عرف العرب والمسلمون ما يسمى أهل الحل والعقد، ويمكن تسميتهم الحكماء أو المشاركين في صناعة القرارات المصيرية في الدولة، وهذه الفكرة تجد لها جذورا نظرية وعملية في الفقه السياسي الإسلامي ونظرياته التي تتخذ من الشورى مظلة تنقصها الكثير من التفاصيل الإجرائية ذات الطابع الحاسم، التي تعتمد على إعطاء حلول لا تعتمد على وجود شخصيات فذة تضع الأمور في نصابها، ولكن تعتمد على آليات واضحة وثقافة قبول رأي الأكثرية والتسليم به لكونه اختيارا نافذا؛ لأنه تم وفق آليات لا خلاف عليها.
وهنا يمكن أن نقف عند تجربة عدد من دول مجلس التعاون الخليجي التي أنشأت مجالس للشورى، وأسندت إليها صلاحيات نظامية لتسهم في إضافة جديدة إلى الكيفية التي تدار بها البلاد، محاولة أن تضع تقاليد إسلامية لدور الأعضاء في برلمانات تستشار أحيانا وتقرر أحيانا أخرى وفق توزيع الصلاحيات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بما يحفظ التوازن في ممارسة الإدارة واتخاذ القرار.
إن الإرث الإداري لكل دولة يرتبط بتاريخها السياسي الحديث وعوامل تشكله وطبيعة الشعب، لكونه العنصر الرئيس في الدولة وأهم أركانها، ويلعب ذلك الإرث الإداري دور البوصلة التي توجه العلاقة بين سلطات الدولة الثلاث، حيث تتم صياغة ذلك كله في قالب قانوني، ويمكن اعتبار مجريات الأحداث السياسية في المنطقة منذ بداية التسعينيات عاملا رئيسا في إحياء الشورى الجماعية المنظمة ووضعها موضع التنفيذ لتكون نواة لبرلمانات هادئة تعمل فيها التقاليد الاجتماعية دورا أكبر من القانون الذي يحدد صلاحيتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي