رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


العرب من الوحدة إلى الانفصال

يبدو أن السودان يسير في طريقه إلى التقسيم؛ إذ بات في حكم المؤكد أن تنشأ دولة جديدة في جنوبه مع مطلع العام المقبل، حيث تشير معطيات كثيرة إلى أن أغلبية السودانيين في الجنوب سيصوتون في التاسع من كانون الثاني (يناير) من عام 2011، لصالح خيار انفصال الإقليم عن الدولة السودانية التي تمركزت تاريخيا في الشمال، وبالتالي لم يعد تقسيم السودان مجرد تصور أو احتمال، بل أمرا على وشك الوقوع قريبا بشكل رسمي وقانوني، وتنفيذا لاتفاقية ''نيفاشا''، التي وقعت بين الحكومة السودانية و''الحركة الشعبية لتحرير السودان'' في عام 2005؛ لذلك طالب الرئيس السوداني عمر حسن البشير، أخيرا، جميع السودانيين بالاستعداد لهذا الحدث، بوصفه أمرا حتميا وقريبا.

وبناءً عليه، فإن الأجدى هو تجاوز الحساسيات الوطنية الضيقة، والإقرار بأن الانفصال ليس نهاية السودان، فقد سبق وأن استقل إقليم كوسوفو عن صربيا، وبات يشكل دولة ذات سيادة ومعترفا بها دوليا، ولم يستطع الصرب وحلفاؤهم منع ذلك أو إيقافه.

#2#

مطالبات الانفصال

لا شك في أنه يصعب على كثير من العرب أن يكون مصير السودان التجزئةَ والتقسيم، فيما يعتبر آخرون الانفصال ''حقا مشروعا'' للجنوبيين في ظل عدم تمكن الدولة السودانية طوال عقود كثيرة من إرساء المقومات الحقيقية لوحدة بنّاءة وجاذبة، لكن معظم المهتمين بالشأن السوداني يتحسبون لمستقبل يكتنفه الغموض والتشوش، سواء بالنسبة للشمال أم بالنسبة إلى الجنوب.

كما أن انفصال إقليم جنوب السودان يثير انفعالات وحساسيات كثيرة في المنطقة العربية؛ كونه يشكل سابقة لانفصال جزء من دولة عربية في مرحلة ما بعد الاستقلال، ويهزّ وحدة وسيادة أحد البلدان العربية، التي تضم معظم تكويناتها أقليات إثنية ودينية مركبة، قد تشكل بؤرا ملائمة لحركات انفصالية جديدة، تستند في شرعنة نزعاتها إلى حدث انفصال جنوب السودان، بمعنى أن الانفصال يمكن أن يشكل مقدمة قانونية ودولية لمطالبات جديدة بالانفصال عن الدولة الأم سواء في السودان نفسه، حيث تلوح في الأفق مشكلة إقليم دارفور، أم في سواه من البلدان العربية، الأمر الذي سيفضي إلى فتح جبهات أخرى خطيرة.

وأقرب مثال حاضر في هذا المجال هو وضع إقليم شمال العراق، حيث الحكم الذاتي الموسع للأكراد، الذين باتوا يتمتعون بمختلف مقومات الإقليم - الدولة.

وقبل أيام عدة، طالب رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني، في خطابه أمام مؤتمر الحزب الذي يتزعمه، بحقِّ تقرير المصير لأكراد العراق، متذرعا بأنَّ ''المرحلةَ المقبلة تنسجم'' مع ذلك.

وتشوب مطالبته الغرابة؛ لأنها تناقض الكلام عن وحدة العراق الذي قيل في مؤتمري أربيل وبغداد في الشهر الماضي، وعُقدا بمبادرة من البرزاني نفسه، وأتاحا التوافق على حلِّ أزمة تشكيل الحكومة العراقية بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الانتخابات التشريعية العراقية.

وتلتقي مطالبة البرزاني مع الأصوات التي ما زالت تنادي بتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب، وثالثة في الوسط.

وهناك أيضا المطالبات باستقلال الصحراء الغربية عن المغرب، ومطالبات أخرى، من طرف قوى ''الحراك الجنوبي'' بانفصال جنوب اليمن عن شماله، إلى جانب تمرد الحوثيين في مناطق صعدة وجوارها، الذي أشعل حروبا عدة بين أهل اليمن.

ولا ننسى الأوضاع التي تنذر بالأسوأ في لبنان، وفي الصومال المتفكك بالفعل، والذي تتقاذفه الصراعات بين زعامات الحرب الأهلية التي تفتك بناسه منذ أكثر من عقدين من الزمن.

أسباب التفكك والبعثرة

يتساءل معظم المحللين السياسيين عما إذا كانت الحالة السودانية ستشكل فاتحة لمشهد التفكك العربي وقيام الدويلات العرقية والطائفية، فيما يعتبر آخرون أن الدولة الوطنية، التي نشأت بعد الاستقلال عن الاستعمار في الحالة العربية، ليست سوى دولة مصطنعة، لا تملك رصيدا تاريخيا؛ كونها تشكلت نتيجة عمليات اندماج قسرية، أرادها الاستعمار أن تخدم مصالحه وتلبي مطامعه، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن تكون عرضة للتفكك والانهيار.

وبصرف النظر عن كافة الأقاويل والتهويلات، فإن ما جرى في السودان، وفي الصومال والعراق واليمن وسواها، حكم مصيرها بالتفكك والانقسام والانهيار، في ظل عدم تضافر الجهود الرسمية والشعبية من أجل وقف النزيف ومنع الانهيار، حيث واجهت هذه البلدان أزمات ومآزق، بسبب فشل السلطات السياسية الحاكمة في التنمية الإنسانية وحفظ الأمن والاستقرار، وعدم ترسيخ ممارسة ديمقراطية حقيقية تنهض على التداول السلمي للسلطة، واللجوء إلى ممارسات التهميش والإقصاء.

وفي كل مرّة تتأزم فيها الأوضاع وتتفاقم المشكلات، كان يجري الاعتماد على لغة التضليل وخداع النفس والآخرين، من خلال الركون إلى تحميل ''العملاء'' و''الخونة'' و''قوى الخارج'' مسؤولية الأزمات والانهيارات المتلاحقة في بنيان الداخل، ولم تقرّ الأنظمة السياسية الحاكمة بأنه لولا عوامل الانقسام والبعثرة الداخلية، لما أمكن لقوى الخارج أن تجد منفذا أو متسعا لتدخلاتها، فلولا استشراء الفساد والخراب وانتشار الظلم والكراهية واغتصاب الحقوق العامة والخاصة لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.

وهناك من يعتبر أن وجود السودان على الخريطة السياسية مجرد وجود وهمي؛ نظرا لأن هوية السودان لم تتبلور عبر تراكم ثقافي تاريخي يصب في وعاء الوحدة والاندماج، بل جمع بين تفاصيله مختلف تناقضات واقعه السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والديني.

ونشأ صراع في السودان امتزجت فيه الهويات مع رائحة النفط والصراع على الموارد والتدخلات الأجنبية، حيث نهضت الهوية في شماله على الدين الإسلامي واللغة العربية، فيما تراكبت الهوية الجنوبية على دعائم المسيحية والزنوجة، فجمعت التركيبة السودانية بين طياتها مهددات الوحدة ومنفراتها، في ظل غياب مقومات الاندماج الاجتماعي، والتفاعل المؤسسي والثقافي بين أبناء الشمال والجنوب.

وفي ظل تفشي الفقر وفشل التنمية، صار أبناء جنوب السودان يشعرون - منذ زمن بعيد - بأنهم حُرموا من حقهم في العيش، وفي المشاركة السياسية، وفي اقتسام خيرات وثروات البلد، وأن هناك قوى سياسية تقف في وجه مشروع بناء دولة تنموية، يسودها القانون والدستور والمواطنة، وتنتفي فيها مختلف العصبيات العشائرية والمذهبية ومختلف الولاءات ما قبل المدنية.

ولم تعمل السلطات التي حكمت السودان على تثبيت دعائم الدولة التي تتسع وتحضن الجميع، بل زادت آلام الجراح ما بين الشمال والجنوب مع النزاعات والحروب الأهلية، ومع تصاعد وتيرة نبرات الدعوات الانفصالية؛ ففشلت النخب السياسية الانقلابية التي حكمت السودان منذ الاستقلال في بناء المقومات السياسية والاجتماعية القادرة على مواجهة الانقسام، بل عملت على استغلال التنابذ والصراع الإثني والديني، كي تبسط سطوتها وتنفذ مشاريعها، وذلك على حساب توسع رقعة الصراع القومي وارتفاع منسوب العنف والعنف المضاد.

يضاف إلى كل ذلك أن السودان شكّل على الدوام محطة للتنافس بين القوى الاستعمارية وتدخلات الدول العظمى.

ودخل في حسابات النفوذ الأمريكي مع صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية منذ خمسينيات القرن العشرين الماضي، حيث حلّ النفوذ الأمريكي فيه، وفي مجمل القارة الإفريقية، محلّ النفوذ الغربي، ومنذ ذلك الوقت، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم المساعدات والمعونات إلى السودان، وأخذت تهتم بأوضاعه الداخلية، إلى جانب تغلغل الشركات النفطية الأمريكية في السودان، وصارت الإدارات الأمريكية معنية بوجود نظام سياسي في السودان يكون مواليا وصديقا لها.

ويطرح المهتمون بالشأن السوداني، في أيامنا هذه، أسئلة عديدة حول الدور الأمريكي، وحول الاهتمام المتزايد الذي باتت توليه الإدارة الأمريكية الحالية حيال مجمل الوضع في السودان، وخصوصا الوضع في إقليم دارفور، والموقف الداعم والراعي لانفصال إقليم الجنوب.

وليست الأمور مضطربة ومتأزمة فقط في السودان، بل من ينظر في الوضع الصومالي يجد الدمار والخراب، ويجد أن الناس فيه يفتقرون، منذ زمن بعيد وصولا إلى أيامنا هذه، إلى أبسط حاجات العيش، بسبب دمار الدولة بفعل التدخل العسكري الأجنبي، الأمريكي والأوروبي ولاحقا الإثيوبي، وتحول هذا البلد الفقير إلى مرتع للميليشيات وجماعات العنف.

وقد تعرض الصومال لاستغلال مختلف الدول، الإقليمية والدولية، وبات ساحة لتصفية الحسابات والعداوات، وعقد الصفقات.

ولا شك في أن انهيار الدولة الصومالية أنتج الفوضى، وأسهم في زيادة وتكريس الفساد والفقر والتخلف، وأنتج كذلك القراصنة في هذه المنطقة البالغة الأهمية، من حيث الموقع الجغرافي والاستراتيجي.

أما الوضع في اليمن، فما زال ينتظر المعالجة الحكيمة المطلوبة، التي تجنب البلد التقسيم والتفتيت، وخصوصا معالجة المشكلات التي يطرحها أهل الجنوب، والالتفات إلى الجانب السياسي والاجتماعي من الأزمة اليمنية، ومعالجة الأسباب بهدوء وحكمة، وإيجاد إطار تنموي، يحفظ التوازن بين المركز والأطراف، وينظم العلاقة بين الدولة والقبيلة في المجتمع اليمني، الذي يبدو أن سلطة القبائل ما زالت تلعب فيه دورها الخاص في التأثير في المجموعات التي تسكن في دائرة جغرافية وعرة في تضاريسها ومسالكها ومداخلها، ويستفيد منها تنظيم ''القاعدة'' في تحركه بين المجموعات العشائرية.

ويكفي التذكير بأن أكثر من 300 ألف جامعي يمني لا يجدون عملا في بلادهم، وتصل نسبة البطالة بين أوساط الشباب اليمني إلى 40 في المائة، ويعيش نحو 60 في المائة من سكانه تحت خط الفقر، ويعاني البلد من التصحر وشحّ المياه والانقطاع المتواصل للكهرباء، فضلا عن انتشار مظاهر الفساد عموديا وأفقيا، إلى جانب التمييز المناطقي والاجتماعي.

الهشاشة الداخلية

يؤكد واقع الحال أن عصرنا الراهن أتاح للقوميات والثقافات المقموعة أن تعبّر عن نفسها بصوت عال في بعض المواضع، نظرا لتغير مفهوم الدولة، وتغاير مفهوم سيادة الدولة القومية، حيث باتت الأنظمة السياسية الحاكمة تحت مجهر المراقبة الدولية، ولا يستطيع أي حاكم مستبد أو أي نظام سياسي أن يعيش بمعزل عما يجري في عالم اليوم.

ويبدو أن الأحداث والمتغيرات العديدة، التي حصلت في المنطقة العربية، كشفت الهشاشة الداخلية في بنية الدولة العربية؛ إذ بقدر ما ينحو النظام السياسي الحاكم فيها نحو المركزة بحدودها القصوى، في السلطة، وسائر الآليات السياسية، والأمنية، والفكر الأحادي، فإنه هو ذاته يولّد الشروط الموضوعية للتفكك والتناثر والفتفتة المجتمعية.

فهناك عودة لافتة إلى الهويات المغلقة، والخصوصيات والولاءات ما قبل المدنية، ومختلف أشكال التمركز على الذات.

وينعكس ذلك على التركيبات الوطنية والاجتماعية في بلداننا العربية على وجه الخصوص.

وعند تناول مشكلة الدولة والقمع الذي طاول مجمل التركيبات الاجتماعية في الدولة العربية، فإن الأجدى هو البحث عن كيفية تقرّ بواقع الحال كما هو، دون المبالغة أو القفز أو التعامي، ومحاولة اقتراح وإيجاد حلول تصبّ في إطار تقوية قيم الولاء للوطن والمواطنة وحقوق الإنسان، وفي ظل التعايش الإنساني الذي تضمنته مبادئ وقيم الديموقراطية والمساواة والعدالة.

وينبغي عدم التباكي على الوحدة القسرية؛ لأنه حين تتعرض جماعة بشرية للاضطهاد والقمع والتهميش من طرف سلطة طاغية فإن هذه الجماعة سترتد إلى نفسها، وتبحث في ذاتها عن خصوصياتها، وعن الفروق التي تميّزها عن سواها من الجماعات والتكوينات التي تعيش معها أو تتساكن معها في الأرض والوطن نفسه، ثم تُصعّد الخصوصيات والفروق بشكل ميتافيزيقي، مبالغ فيه، يتناسب مع درجة الاضطهاد أو التهميش الممارس بحقها، بل ويتعداها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي