رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


غالبية نزلاء السجون من خريجي الجامعات

تطرقت بعض صحفنا المحلية مطلع هذا الأسبوع إلى التقرير الذي نشرته وزارة الداخلية عن أوضاع السجون السعودية، حيث بين التقرير أن نسبة 90 في المائة من المسجونين هم من العاطلين، وأن 70 في المائة من العاطلين يحملون مؤهلا جامعيا. وقد وزعت وزارة الداخلية جزءا من دراستها هذه على جميع اللجان والهيئات المعنية بشؤون نزلاء السجون ومنها مجلس الشورى، ولجان تراحم، والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، ووزارة العمل، وصندوق الموارد البشرية، وإمارات المناطق، والمحافظات وطلبت من مؤسسات التعليم العالي إجراء دراسات معمقة لمعرفة الأسباب.
ومن أبرز من تفاعل مع هذا الحدث إمارة منطقة مكة المكرمة، حيث وجه أمير المنطقة مدير جامعة الملك عبد العزيز باستنفار إمكانيات الجامعة البحثية والأكاديمية للمساهمة في هذا الموضوع واقتراح الحلول التي تعالج ارتفاع مستوى الجريمة بين خريجي الجامعات. وقد قامت الجامعة بمعالجة الموضوع بطريقتها التقليدية، فقامت بتشكيل لجان علمية عاجلة لتنفيذ توجيه أمير المنطقة وأعلنت خطتها التي نشرتها في صحيفة "عكاظ" والتي ستبدأ في شهر ربيع الأول المقبل وتستمر لمدة عام تتضمن برامج توعوية وتثقيفية، وورش عمل، وندوات، ولقاءات تعريفية بخطر الجريمة وآثارها في المجتمع. ورغم كل هذا الكم الهائل من المواد التثقيفية إلا أنني أظن أن الجامعة لن تأتي لنا بجديد، فالآلية التي ستنهجها لمعالجة هذا الموضوع لن تخرج عن استضافة عدد من الوجوه البارزة في الفضائيات من أكاديميين، ورجال دين، ودعاة يجترون ما في أذهانهم من خواطر سمعناها منهم مرارا وتكرارا في محافل عدة.
وزارة الداخلية تريد من الجامعات إجراء دراسات وأبحاث ميدانية تجيب عن السؤال التالي: كيف وصل خريج الجامعة وهو يحمل هذا المؤهل وقد بلغ هذه السن أن يتعدى على مكتسبات البلد ويعيث في الأرض فسادا وأصبح معول هدم بدلا من أن يكون أداة بناء؟ ودراسات كهذه تحتاج إلى متخصصين في علم النفس، وعلم السلوك، وعلم الاجتماع، والتربية وقد تستغرق عدة أشهر بل سنوات فيجب أن يُؤخذ الأمر مأخذ الجد ويفرغ عدد من أعضاء هيئة التدريس لهذه المهمة الوطنية، فوزارة الداخلية ـــ كما بينت في تصريحها ـــ تريد توصيات مبنية على دراسات ولا تريد إلقاء المحاضرات وعقد الندوات فالكل يعرف مخاطر الجريمة وآثارها في الفرد والمجتمع ولا نحتاج أن يؤتى إلينا بمن يتلو على مسامعنا ملامح المدينة الفاضلة.
تلجأ الجامعات إلى الأساليب التقليدية لطرق قضايا المجتمع عندما تفتقر إلى المتخصصين والباحثين الأكفاء في العلوم ذات العلاقة. فلقد جنحت جامعاتنا عن مهمتها الحقيقية خلال السنوات العشر الماضية فطوعت برامجها لخدمة سوق العمل وأهملت جميع العلوم التي ليس لها علاقة بالوظائف والتوظيف ومن أبرزها العلوم الاجتماعية، والسلوكية، والنفسية، كالتاريخ والجغرافيا وعلم النفس وعلم الاجتماع والتربية، وبهذا أصبحت المهام الفعلية لجامعاتنا تراوح بين تخرج عاطلين يكون مصيرهم إلى السجون ـــ كما ذكر لنا تقرير وزارة الداخلية ـــ وبين الاستغناء عن أقسام علمية بكل ما تحتويه من أساتذة، وخطط، وبرامج، وخبرات. لقد قامت الجامعات في السنوات الأخيرة بإقصاء كل ما يمت بصلة إلى العلوم الاجتماعية والسلوكية والنفسية وترى أن هذه العلوم لم تعد مناسبة، وقد تسببت في زيادة نسبة البطالة في بلادنا، وطوعت كل برامجها لما يخدم سوق العمل فابتعدت عن وظائفها الأساسية من تبني العلماء وصقل الباحثين وإعداد الأساتذة المتميزين فتحولت من حيث تدري ولا تدري إلى مراكز تدريب بدل أن تكون منارات علم ومعرفة.
ونتيجة لهذا تغيرت الثقافات التنظيمية للجامعات فمن أبرز ملامحها ابتعاد أعضاء هيئة التدريس عن ممارسة أعمالهم الحقيقية من التدريس والبحث وأصبحوا يسعون بكل ما أوتوا للظفر بالمراكز القيادية داخل الجامعات والبعض الآخر يسعى جاهدا منذ حصوله على الدكتوراة إلى الفرار إلى وزارات وهيئات وشركات ومجالس؛ لأن أكبر ما يمكن أن تقدمه الجامعة درجة الدكتوراة، فعندما تمكن من نيل اللقب، فما الداعي أن يبقى في الجامعة التي ترمي له بالفتات في حين أنه قد يجد خارجها أضعاف ذلك؟!
ووفقا لهذا المنحى العشوائي للموارد البشرية والبنية التحتية للأقسام العلمية، أصبحت الجامعات شبه خالية من الكفاءات الحقيقية ومن الباحثين الأكفاء خصوصا في تخصصات العلوم الاجتماعية. إضافة إلى كل هذا فإن الجامعات لم يكن من أولوياتها تطوير عضو هيئة التدريس بعد حصوله على درجة الدكتوراة بل استنزفت جهده في اللجان الهامشية والأعمال الإدارية وحاصرته من كل جانب حتى المؤتمرات التي تصقل مهارته وتطلعه على الجديد في حقله توضع أمامه العراقيل الإدارية والمالية حتى هجر كثير من أعضاء هيئة التدريس المشاركة وحضور المؤتمرات.
لذا أرى أن الجامعات تحتاج إلى إعادة بناء لكي تكون قادرة على أداء مهامها الحقيقية ومنها بحث قضايا المجتمع .. فهل تستطيع الجامعات بوضعها هذا تحقيق تطلعات الجهات المعنية في موضوع دراسة أسباب جنوح خريجي الجامعات؟ من يرى خلاف ما أقول فليُبصرنا بما لديه فلعلني قد أكون مخطئا في كل ما ذكرت!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي