رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


المقامرة بالعالم

مقامرة كبيرة سيقوم بها الاحتياطي الفيدرالي لتحفيز الاقتصاد الأمريكي، بتبني حزمة التيسير الكمي Quantitative Easing الثانية بقيمة قد تصل إلى 600 مليار دولار أمريكي. وكانت حزمة التيسير الأولى قد بلغت 1.75 مليار دولار، وركزت على شراء سندات الرهن العقاري عندما انطلقت الأزمة المالية العالمية. ماذا سيفعل الاحتياطي الفيدرالي بهذه الحزمة؟ سيقوم بشراء سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل (30 عاما)، ما الهدف من ذلك؟ ببساطة، يهدف الاحتياطي إلى تخفيض العائد على سندات الخزانة طويلة الأجل؛ مما سيدفع المؤسسات المالية والمستثمرين إلى بدائل استثمار أخرى مما سيحفز الاقتصاد الأمريكي ويزيد من التوظف.
ولتوضيح ذلك للقارئ، فإن العلاقة بين العائد الحالي (وليس الفائدة وقت الإصدار) وبين سعر السند الحالي هي علاقة عكسية. فالسند يصدر ويحدد له سعر فائدة محددا، وقيمة اسمية محددة، ويستطيع مشتريه الاحتفاظ به حتى تاريخ الاستحقاق والاستفادة من التدفقات النقدية الدورية المحددة بسعر الفائدة الاسمي، أو يستطيع الذهاب إلى السوق وبيعه بسعر السوق الذي يخصم سعره بناءً على سعر الفائدة السائد وقت البيع. فمثلا قد يرتفع سعر هذا السند إذا كان سعر الفائدة الحالي على السندات منخفضا عن سعر الفائدة الاسمي الخاص بهذا السند والعكس صحيح. ولاحتساب العائد الحالي على السند، فإنك تقارن سعره الحالي بالفائدة الاسمية، وكلما ارتفع سعره، انخفض العائد عليه.
ما يريد الاحتياطي الفيدرالي فعله هو التركيز على العائد الحالي على السندات، فعندما يقوم بشراء كمية كبيرة منها، سيرتفع سعرها الحالي، وعند مقارنة سعر فائدة الاسمية مع سعرها الحالي، سنجد أن العائد الحالي عليها انخفض. والسبب في لجوء الاحتياطي الفيدرالي إلى هذه السياسة بدلا من التركيز على سعر الفائدة نفسه، أن سعر الفائدة الذي يستهدفه سعر الاحتياطي الفيدرالي هو سعر الإقراض بين البنوك لليلة الواحدة لتغطية العجوزات في متطلبات الاحتياطي التي يفرضها الاحتياطي الفيدرالي. وسعر الفائدة الحالي مقارب للصفر، وبالتالي فإن الوسيلة الوحيدة لتحفيز المستثمرين للاستثمار في أنشطة الاستثمار الحقيقي وزيادة التوظف، هو في جعل الاستثمار في السندات طويلة الأجل أقل جاذبية بتخفيض العائد عليها.
السؤال الذي يحاول الجميع الإجابة عنه، هل ستكون حزمة التيسير الكمي الثانية فاعلة في تعزيز النمو الاقتصادي أم لا؟ الإجابة عن ذلك تأخذ أوجها عدة، فمن ناحية قد تعمل الحزمة على تعزيز النمو، لكن في الغالب سيتعزز هذا النمو على المدى القصير وليس على المدى البعيد. فعلى المدى القصير قد يجد المستثمرون خيارا لا مفر منه من الاستثمار في توسعة الطاقات الإنتاجية وتوظيف المزيد من العاملين، وبالتالي تحفيز النمو الاقتصادي. لكن ذلك يظل مشروطا بالكيفية التي سيخدم بها المواطن الأمريكي (سواء المستثمر أو الفرد) عوائد هذه الحزمة، فبدلا من أن يوسع المستثمرون الطاقات الإنتاجية، وبدلا من أن يشتري الأفراد المزيد من المنازل، قد يؤدي ذلك إلى أن يتجه المستثمرون إلى الاقتراض بالأسعار المنخفضة في الولايات المتحدة، ويعيدوا استثمارها في الخارج، كما أن المخاوف من تفاقم التضخم في المستقبل وضعف النمو لن يشجعا الأفراد على الاستهلاك بل على الادخار، وهو ما يحاول الاحتياطي تجنبه حاليا.
على المدى البعيد قد تخلف هذه الحزمة نتائج قد يصعب التعامل معها، ومن أهمها الدين الكبير الذي تتحمله الحكومة الفيدرالية، وهذا بدوره يقلل من الثقة في المستقبل. فالسيولة الكبيرة التي سيضخها الاحتياطي الفيدرالي ستؤدي إلى إشعال فتيل التضخم، وإذا لم يستطع الاحتياطي سحب هذه السيولة في الوقت وبالسرعة المناسبة، فقد يؤدي ذلك إلى نتائج سلبية كبيرة. إضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع الدين العام، والتزامات الحكومة، قد يؤديان إلى أن ترفع الحكومة الضرائب في المستقبل، وهذا قد يحد من النمو في المستقبل، وهو نتيجة عكسية لما قد يرغب الاحتياطي الفيدرالي في تحقيقه. وكل ذلك، سيكون مرهونا بالطريقة التي ستعامل بها الاحتياطي مع كل العوامل المتغيرة، واستجابة المستثمرين وثقتهم في أن خطوة الاحتياطي الفيدرالي هي الطريق الصحيح لإنعاش الاقتصاد. فقد تؤدي استجابة المستثمرين بشكل إيجابي إلى تعزيز التوظف وبالتالي تعزيز الاستهلاك ومن ثم تعزيز النمو، وهو ما يتمناه الاحتياطي الفيدرالي.
بالنسبة للاقتصادات الأخرى، وخصوصا الاقتصادات الناشئة، فقد تتأثر من هذه السياسة بشكل مباشر أو غير مباشر. فما يدور حاليا هو حتمية انخفاض الدولار نتيجة زيادة المعروض من النقود، وهو إلى حد ما صحيح وتنعكس هذه المخاوف بشكل واضح على أسعار السلع كالنفط والذهب. لكن لا ننسى أن الوضع الاقتصادي العالمي، خصوصا في أوروبا يعاني مشاكل كبيرة أسهمت بشكل كبير في انخفاض سعر صرف اليورو، وبالتالي فقد يكون الانخفاض في اليورو والدولار متناسبا أمام العملات الأخرى Race to the Bottom، خصوصا الآسيوية، وهنا مربط الفرس. فانخفاض الدولار أمام العملات الآسيوية، وخصوصا أمام اليوان الصيني والين الياباني، سيسهم في تحقيق هدفين بالنسبة لصانع القرار الاقتصادي الأمريكي. الأول، تخفيض تنافسية منتجات هذه الدول أمام المنتجات الأمريكية، وبالتالي تعزيز مكانة الصادرات الأمريكية والأوروبية أيضا. وثانيا، انخفاض سعر الدولار، أما اليوان قد يفاقم من الضغوط التضخمية التي تعانيها الصين حاليا، وقد يفرض عليها رفع سعر الفائدة وهو ما يدفع بمزيد من رؤوس الأموال إلى الصين وسيضغط على عملتها بالارتفاع، وهو ما تريد الولايات المتحدة تحقيقه. وأخيرا، وبعد هذا كله، ألا يعد ذلك مقامرة كبيرة بالاقتصاد العالمي برمته؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي