العرب وسط فوضى الاستراتيجيات العالمية والمصالح الإقليمية

يجد الناظر في أحوال وأوضاع منطقة الشرق الأوسط أن متغيرات وتحولات عديدة عصفت بها منذ نهاية القرن الـ 20 الماضي وإلى يومنا هذا، وأن العرب كانوا بعيدين عن لعب أي دور محوري أو فاعل في تلك المتغيرات التي طاولت قضايا ومشكلات منطقتهم، وكانوا منفعلين أو منساقين إلى الانخراط في الاستراتيجيات الدولية والإقليمية التي وضعتها القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، حيث لم تظهر أية قوة عربية فاعلة، خصوصاً بعد تغييب الدور المصري منذ اتفاقيات كامب ديفيد عام 1977، وانفراط عقد المثلث المصري ـــ السعودي ـــ السوري، ثم جاء غزو العراق واحتلاله من طرف الولايات المتحدة ليخرج هذا البلد نهائياً من معادلات الصراع في المنطقة.
وعرفت منطقة الشرق الأوسط، منذ بداية الألفية الثالثة، صعوداً ملحوظاً للدورين، الإيراني والتركي، وبات التنافس والصراع على النفوذ في هذه المنطقة ـــ في أيامنا هذه ـــ ثلاثياً على المستوى الإقليمي، ما بين كل من إسرائيل وإيران وتركيا، وازدادت سطوة الاستراتيجيات الدولية والإقليمية على المنطقة العربية، في ظل حالة الفراغ الاستراتيجي وانسداد الأفق والوهن الكبير الذي تعيشها الدول العربية، وغياب الفرص الحقيقية للإصلاح السياسي للنظم السياسية العربية وللسلام العادل والشامل في المنطقة.
واعتبرت الدول الإقليمية الفاعلة في المنطقة أن تراجع الدور الأمريكي فيها يشكل تطوراً مهما، كونه يوفر لها نافذة مفتوحة للتعامل مع بعض الأزمات والملفات الشائكة في المنطقة، فبدأت تتدافع بشكل جلي الاستراتيجيات الإقليمية، وخاصة مع بروز الدور الإيراني وتنامي الدور التركي، مقابل التراجع الحاد للنظام السياسي العربي وللعمل العربي المشترك، في وقت تثار فيه الهواجس الأمنية لدول الخليج العربي، ما يعني صرف مليارات الدولارات على صفقات الأسلحة، فيما تنخرط بعض الدول العربية في سياسة المحاور الإقليمية والدولية، ويشهد بعضها الآخر خطوات تفتيت وتقسيم، إلى جانب ما تشهده من محاولات شدّ وتحدّ لأمنها القومي، فضلاً عن التدخل الخارجي في شؤون أغلبية الدول العربية، الذي يتخذ أشكالاً متعددة ومختلفة.

الفراغ الاستراتيجي
عادة ما تضع الدول خططاً ثابتة، على المدى البعيد، في مختلف الميادين، السياسية والاقتصادية والدفاعية والاجتماعية وسواها، بما يعني وضع استراتيجية واضحة الأهداف والمعالم، تشكل المشروع السياسي للدولة المعنية. وهذا أمر لا وجود له في الحالة العربية الراهنة، إذ ليس هناك استراتيجية عربية واضحة المعالم والأهداف، بينما تحضر الاستراتيجيات الإقليمية بقوة في المنطقة، لتسد الفراغ الاستراتيجي الحاصل.
ويتجسد الفراغ الاستراتيجي الحاصل في الحالة العربية، في شكل فراغ قوة على مختلف المستويات، السياسية والعسكرية والاقتصادية، إذ ليس هناك قوة عربية سياسية يحسب لها حساب، سواء على المستوى الإقليمي أو المستوى الدولي، وليس هناك أيضاً قوة اقتصادية عربية، بالرغم من وجود البترول والثروات الطبيعية الأخرى، كما أنه ليس هناك قوة عسكرية عربية يحسب لها وزن على المستويين، الإقليمي والدولي.
غير أن الفراغ الحاصل، في أيامنا هذه، يضرب عميقاً في التاريخ العربي الحديث، بدءاً من النصف الثاني من القرن الـ 20 الماضي وصولاً إلى اليوم، حيث نعثر على الإخفاقات العربية المتكررة في الخروج من حالة التبعية، والعجز عن التحول العربي إلى شريك محترم في النظام العالمي، الأمر الذي يلقي أضواء جديدة على فراغ القوة في المنطقة العربية، حيث يحمل هذا المفهوم دلالة رمزية، يلخصها غياب هوية سياسية قوية البنيان فيها.
ويشير الواقع العربي إلى أن الدول العربية الناشئة بعد الاستقلال استمرت مادة تجاذب بين القوى الخارجية والإقليمية، وكانت خاضعة لسيطرة خارجية، مباشرة وغير مباشرة، مورست على أنظمة هشّة منقوصة الشرعية. وأتاح الضعف والعجز العربي، على الصعيدين السياسي والعسكري، قيام دولة إسرائيل عام 1948، إذ بالرغم من الانقلابات العسكرية العديدة التي شهدتها دول المشرق العربي وسواها، إلا أنها بقيت عاجزة عسكرياً، وعليه جرى التعامل مع المنطقة بوصفها منطقة تقاسم نفوذ وهيمنة. لكن الخطير في الأمر أن الفراغ العسكري يعبّر عن فراغ أكبر على مستوى التماسك الاجتماعي والثقافي، وتالياً الاجتماعي والسياسي، وعن غياب التحولات الاقتصادية والمؤسساتية، وغياب مجتمعات متماسكة في حدودها الجغرافية وفي هويتها المعترف بها والمحترمة على مختلف المستويات.

اختلاف الاستراتيجيات
اقترن النظام الإقليمي العربي، الذي تشكل بعد الاستقلالات العربية، بمرحلة من الانقسام والتباعد على خلفية اصطفافات وإرهاصات مرحلة الحرب الباردة. وبعد تداعي ما عرف بالمثلث ''المصري ـــ السعودي ـــ السوري'' وانسحاب مصر من معادلة الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، ثم انقسام الأنظمة العربية إلى ممانعة واعتدال، تعمقت حالة الفراغ الاستراتيجي، ودخلت الأنظمة العربية في تحالفات مع قوى إقليمية أخرى، لعبت فيها أدواراً ثانوية وملحقة. وفي ظل استمرار الانقسام العربي ظهرت إيران كقوة إقليمية جديدة، ودخلت مجال التنافس في المنطقة من باب العداء لإسرائيل، فراحت تتحدث عن تحول قضية فلسطين إلى قضية إسلامية، ثم جاء الدخول القوي لتركيا وتنامي دورها الإقليمي ليغير في معطيات الشدّ والجذب في المنطقة التي باتت تشهد نوعاً من فوضى الاستراتيجيات الدولية والمصالح الإقليمية.
وقد كان العراق بعد الاحتلال الأمريكي المكان الظاهر والبارز لصراع وتقاسم النفوذ بين القوى الإقليمية الجديدة، خاصة بعد الفشل الأمريكي، حيث وقع جنوبه في دائرة النفوذ الإيراني، فيما باتت تركيا تسيطر اقتصادياً على منطقة الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق، من خلال امتلاك قسط كبير من السوق المحلية واستثمارات مباشرة في مشاريع البنية التحتية، وامتدت علاقاتها بسائر مناطق العراق، إلى جانب وجودها العسكري على طول الشريط الحدودي لشمال العراق، كما أن هناك الوجود الأمني والاستخباراتي الإسرائيلي في مناطق الأكراد العراقيين في الشمال.
وتختلف استراتيجيات وأدوار كل من إيران وتركيا وإسرائيل في المنطقة، حيث تسعى إسرائيل إلى أن تكون القوّة الإقليمية الوحيدة المُـهمينة على كامل الشرق الأوسط الكبير، بوصفه ميداناً لسيطرتها العسكرية والاقتصادية، وتستند في ذلك إلى مساندة ودعم الولايات المتحدة وجميع الدول الغربية. كما تسعى إسرائيل إلى الحفاظ على التفوق العسكري وامتلاك قوة الردع النووية، بوصفها جزءاً أساسياً من عقيدة أمنها، وهذا عائد إلى طبيعة الكيان الإسرائيلي، الذي قام أساساً على مبدأ القوة والقناعة الإسرائيلية بأن هناك حاجة دائمة لهذه القوة للاستمرار، وأن أية هزيمة قد يتعرض لها الكيان تشكّل تهديداً وجودياً له. وبناء عليه، فإن ''إسرائيل'' تبقي نفسها على استعداد دائم للحرب، وتعمل لاحتواء أي خطر استراتيجي بالنسبة لها قبل تعاظمه، لذلك تنظر إلى البرنامج النووي الإيراني بوصفه خطراً عليها.
بينما تسعى إيران إلى القيام بدور الزّعامة الإسلامية في المشرق العربي والعالم، واختارت مدخل الصِّراع الأيديولوجي والأمني مع القوّة الإقليمية الإسرائيلية المُـسيطرة، كما تسعى إلى التوصّل إلى اعتراف الولايات المتحدة، والمجتمع الدولي، بدورها المحوري في المنطقة، إلى جانب سعيها إلى عقد اتفاقات تضمن أمن نظامها ومجال نفوذها الجيوسياسي.
وتحاول القيادات الإيرانية تقديم التطمينات لدول مجلس التعاون على هواجسها الأمنية المبررة حيال البرنامج النووي الإيراني، حيث اعتبر وزير الخارجية الإيراني، منوشهر متكي، في كلمته التي ألقاها في مؤتمر لأمن الخليج في البحرين، عقد في الخامس من الشهر الجاري، ''إنه لا يوجد ما يدعو للقلق من أن تكون إيران أكثر قوة''. وبدت تصريحاته وكأنها تحمل الرد الإيراني الرسمي على ما حملته الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس، المتعلقة بقلق قادة دول الخليج العربي من قوة إيران وبرنامجها النووي، وطالب بعدم السماح ''لوسائل الإعلام الغربية بأن تقول لنا ما هي آراء كل منا في الآخر، ونحن لم نستخدم أبداً إمكاناتنا كي نصبح أقوياء ضد أي من دول الجوار، خاصة أن جيراننا مسلمون''.
ولا شك في أن البرنامج النووي الإيراني يدخل ضمن مسببات ومهددات الاستقرار الإقليمي في منطقة الخليج، ويسهم في تكريس الخلل القائم في موازين القوى بين إيران ودول الخليج العربي، خصوصاً إن كان له جانب عسكري. إضافة إلى أن حقائق الجغرافيا السياسية تشير إلى أن دول الخليج ستتأثر بشكل مباشر في حالة نشوب صراع عسكري بين إيران والأطراف المعنية بالقضية النووية، تنعكس آثاره على منطقة الخليج وما له من آثار مدمرة على الصُّعد الاقتصادية والتجارية وغيرها، خاصة أن الخيار العسكري ليس مستبعداً من استراتيجيات الولايات المتحدة وإسرائيل حيال الملف النووي الإيراني.

الحضور والتصورات
تمتلك كل من إيران وتركيا حضوراً تاريخياً وحضارياً في المنطقة، إلى جانب امتلاك كل منهما الموارد الاقتصادية والمالية الكافية، ومقومات القوة الصّـلبة والناعمة، الأمر الذي يجعل حضورهما قويا في الملفات والقضايا الإقليمية. لكن التصور الاستراتيجي لإيران يختلف تماماً عن نظيره التركي، حيث تحاول إيران لعب دور قيادي في المنطقة، وفرض نفسها على جميع دولها، بوصفها قوة إقليمية كبرى، من حقها أن تبني مواقع نفوذ وتحالفات كي تتمكن من ذلك، ولا يتوقف سعيها إلى ذلك حتى لو تطلب استخدام القوة الصلبة، سياسياً وعسكرياً.
بالمقابل تطرح تركيا نفسها شريكاً، اعتماداً على ما تبديه من قوة ناعمة، دبلوماسية وسياسية واقتصادية، ولا تسعى إلى فرض نفسها كقوة هيمنة، بل تسلك طريق الحوار والتوافـق والتفاهم مع الدول والأطراف الفاعِـلة في المنطقة. ويحاول القادة الأتراك تصوير الدور التركي كمساهم في الوساطة و''إطفاء الحرائق'' في المنطقة.
غير أن واقع الحال، يشير إلى أن القادة الأتراك، عملوا على صياغة مقاربة جيواستراتيجية وثقافية، تجعل من تاريخ تركيا الإمبراطوري العثماني وميزات موقعها الجيوسياسي المحوري رصيداً إيجابياً للعب دور محوري في المنطقة، وطوروا رؤية ''عثمانية جديدة'' كي تساعدهم على استحضار إرث ''القوة العظمى'' العثماني، وإعادة تعريف مصالح البلاد القومية والاستراتيجية؛ بما يفضي إلى ضرورة النظر إلى تركيا، بوصفها قوة إقليمية مركزية، تتحرك دبلوماسيتها النشطة في اتجاهات عدة، محورها الانخراط المتزايد في شؤون الشرق الأوسط على قاعدة التقارب مع العرب والمسلمين.
ويحمل الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط سمات وقسمات خاصة، تصب في سياق قلب التوازنات وعمليات الحراك الإقليمي، وتسهم في إذابة الجمود في المنطقة، لكنه يمتلك أسباباً مختلفة ومتنوعة، تصب في خدمة المصالح الوطنية التركية، حيث يكفي الإشارة إلى أن التغير الذي طاول العلاقات السورية ـــ التركية لم يشمل الجانب السياسي فقط، بل الجانب الاقتصادي، وبشكل تريد تركيا أن تجعل سورية بواباتها العربية إلى دول الخليج ومصر وسواها، لذلك جرى التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة، وتمّ الشروع في تطبيقها عام 2007. وفي السياق ذاته جاء اتفاق فتح الحدود بين البلدين من دون سمة دخول، فضلاً عن عشرات الاتفاقيات الاقتصادية الأخرى. وقد ازداد حجم التبادل التجاري بين البلدين بشكل متسارع، فبلغ خلال سنوات معدودة نحو ملياري دولار سنوياً، ومتوقع له أن يتجاوز الخمسة مليارات دولار خلال الأعوام القليلة المقبلة، بما يحوّل تركيا إلى الشريك التجاري والاقتصادي الأول لسورية.
وقد وجدت تركيا الطريق مفتوحة أمامها للتحرك في منطقة الشرق الأوسط، في ظل التنافس والتصادم ما بين إيران وإسرائيل على الأدوار والمصالح، واستمرار حالة الانقسام العربي، التي عرفت معسكرين، أحدهما للاعتدال والآخر للممانعة، وباتت دولة محورية، حاضرة في أيامنا هذه في كل قضايا ومسائل منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، والمنطقة المحيطة بها بشكل عام، وينهض دورها على سياسة خارجية، تحمل دينامية كبيرة، وتتسم بالمبادرة وليس برد الفعل، الأمر الذي يفترق مع ضيق أفق الأيديولوجيات والأحكام المسبقة وأزمات وعقد الماضي، ويتجسد في المبادرة والحضور المبكر والاستباقي لتركيا في كل أزمات ونزاعات المنطقة.
وبالافتراق عن تصورات وأدوار الدول الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط، فإن المطلوب عربياً يتمثل في ضرورة مأسسة النظام العربي وفق استراتيجية شاملة، تأخذ في عين الاعتبار وضع تركيا وإيران في المنطقة، والعمل على التقاط اللّـحظة الراهنة، التي تشهد انغماس تركيا في الوضع الإقليمي، حيث يمكن البناء على سدّ جزء من الفراغ الاستراتيجي لصالح تفاهم عربي ـــ تركي، وربما يمتد هذا التفاهم الثنائي إلى تفاهم ثلاثي: عربي ـــ تركي ـــ إيراني. وفي حال التوصل إلى مثل هذا التفاهم الاستراتيجي، فإنه يمكن تصحيح الاختلال في موازين القوى وإعادة بناء الآليات السياسية الداخلية في البلدان العربية، حيث تتم الاستجابة لضرورات هذه المرحلة، التي تشهد تراجعاً أمريكيا في أفغانستان والعراق، مقابل الإمعان في الغطرسة الإسرائيلية واستمرار سياستها الاستيطانية في فلسطين واحتلالها الأراضي العربية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي