رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


رفع قيمة الريال لن يجدي في مكافحة التضخم

عاودت معدلات التضخم في المملكة ارتفاعها بعد تراجعها المؤقت مع بدء انطلاقة أزمة المال العالمية أواخر عام 2008، الأمر الذي أعاد من جديد المطالبة برفع قيمة الريال أمام الدولار كوسيلة للحد من الضغوط التضخمية. والسؤال الآن هو: هل يمكن أن يسهم رفع قيمة الريال في تخفيض معدلات التضخم المحلية؟ الإجابة بكل تأكيد هي لا، فالارتفاع الحالي في معدلات التضخم في المملكة سببه الأساسي النمو الكبير في الطلب الكلي نتيجة الارتفاع المبالغ فيه جدا في الإنفاق الحكومي على مدى عدة سنوات وليس نتيجة تراجع قيمة الدولار. فلو كان التضخم سببه تراجع الدولار لشهدت معدلات التضخم في الولايات المتحدة نفسها تحقيق معدلات عالية، ولأصبح هناك ارتفاع في معدلات التضخم عالميا، إلا أن الواقع عكس ذلك، فهناك استقرار في معدلات التضخم عالميا، والحكومة الأمريكية قلقة بصورة أكبر من أن يكون هناك تراجع في المستوى العام للأسعار لا أن ترتفع معدلات التضخم، كما يبدو جلياً من قرار البنك الاحتياطي الفيدرالي قبل أسابيع ضخ 600 مليار دولار إضافية في أسواق النقد بهدف تعزيز مستويات السيولة من خلال ما سمي بسياسة التيسير الكمي.
فخلال السنوات الثلاث الماضية، على سبيل المثال، نما الإنفاق الحكومي بمعدل سنوي تجاوز 17 في المائة، ويتوقع نموه هذا العام بهذا المعدل نفسه إن لم يكن حتى بمعدل أعلى. وهذا الارتفاع المبالغ فيه جدا في معدلات نمو الإنفاق الحكومي له تأثيرات تضخمية كبيرة تبدو جلية في الارتفاع الهائل في تكلفة المشاريع الحكومية ما حد كثيراً من فاعلية هذا الإنفاق، وجعله أقرب للهدر من كونه إنفاقا يرفع الطاقة الإنتاجية ويحسن من البنية التحتية، حيث أصبحنا نسمع أرقاما فلكية لتكاليف مشاريع كان يتم تنفيذها قبل عدة سنوات فقط بجزء بسيط من تلك المبالغ، وأصبح المليار يصرف كما كانت تصرف بضع عشرات من الملايين. وجدوى الإنفاق الحكومي لا تقاس بمقدار ما يصرف وإنما بفاعلية وكفاءة ما يتم صرفه، فإن كانت تكلفة إنشاء مدرسة قبل عدة سنوات خمسة ملايين ريال، وأصبحت المدرسة نفسها تكلف الآن 20 مليون ريال، فإن تضاعف الإنفاق الحكومي الاستثماري ثلاث مرات يحقق كمية الإنشاءات نفسها قبل هذا الرفع، ما يجعله عديم جدوى ومتدني الكفاءة. من ثم فإن المبالغة في حجم الإنفاق الحكومي دون الأخذ في الحسبان الطاقة الاستيعابية للاقتصاد. والتأثير التضخمي لذلك يمثل خللا واضحا في سياستنا المالية خلال السنوات القليلة الماضية، وأحد أهم أسباب ارتفاع معدلات التضخم محليا، يزيد من حدته طبعاً كون هذا الإنفاق ممولا من الإيرادات النفطية، أي إيرادات من خارج الاقتصاد، ما يجعله يمثل تدفقا نقديا جديدا يسهم بشكل مباشر في زيادة معدلات نمو العرض النقدي وحجم السيولة المحلية.
ما الذي يعنيه كل ذلك فيما يتعلق بالتأثير المتوقع لأي رفع في قيمة الريال في معدلات التضخم؟ هذا يعني أنه، وفي ظل قوة الطلب الكلي، فإن أي انخفاض في تكلفة السلع المستوردة نتيجة رفع قيمة الريال أمام الدولار لن يمرر إطلاقاً إلى المستهلكين وسيضاف مباشرة إلى هوامش ربح المستوردين وتجار التجزئة فقط. فقوة الطلب على هذه السلع تتيح لهم المحافظة على الأسعار السابقة نفسها بل حتى زيادتها رغم كل ما سيترتب على رفع قيمة الريال من انخفاض في تكلفة الاستيراد عليهم. ولعلنا جميعاً نتذكر أنه في أعقاب أزمة المال العالمية في أواخر عام 2008 حدث تراجع عالمي في أسعار معظم السلع الأولية في السوق العالمية، وشهدت قيمة الدولار ارتفاعا كبيرا أمام معظم العملات في العالم، ومع كل ذلك فإن الأسعار المحلية لم تشهد أي تراجع وحافظت على مستوياتها السابقة أو حتى زادت قليلا، ما يعني ارتفاعا كبيرا في هوامش ربحية المستوردين، ثم ابتداء من أواخر عام 2009، ونتيجة لقوة الطلب المحلي على السلع والخدمات المدفوع باستمرار النمو المبالغ فيه في حجم الإنفاق الحكومي بدأت موجة تضخم جديدة غير مرتبطة إطلاقا بتراجع قيمة الريال، وإنما بضغط قوة الطلب المحلي ووفرة السيولة، كما يتضح ذلك من خلال الارتفاع غير المعقول في أسعار العقارات والإيجارات.
وحيث إن ميزانية الدولة للعام المالي الجديد على وشك أن تصدر فإنا في أمس الحاجة إلى إجراء مراجعة سريعة لسياسات الإنفاق في المملكة، يتخذ معها إجراءات صارمة ملزمة تضمن، على أقل تقدير، تثبيت حجم الإنفاق الحكومي عند معدلاته الحالية من خلال الحد من الإنفاق الحكومي الاستهلاكي غير الضروري، وجدولة المشاريع التي هي تحت التنفيذ حالياً على فترات أطول. وما لم نقم بمثل هذه المراجعة فإن كفاءة الإنفاق الحكومي ستواصل تراجعها وستزيد معاناة المواطنين من معدلات مرتفعة من التضخم لا يجاريها نمو مماثل في دخل شريحة واسعة من أفراد المجتمع، ما يتسبب في ترد إضافي في مستويات معيشتهم، ويجعل أي حلول جزئية كرفع قيمة الريال تصبح حلولاً عديمة الجدوى ومكلفة، تتسبب فقط في إعاقة جهود تنويع اقتصادنا بزيادة معاناته من أعراض المرض الهولندي، دون أن تسهم مطلقا في تخفيض معدلات التضخم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي