آن الأوان لكي تتعلم أوروبا الدرس

إن الأزمات تشكل فرصة للتعلم. فعلى مدى القرنين الماضيين، باستثناء فترة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الأزمات المالية الكبرى تنشأ في البلدان الفقيرة وغير المستقرة، والتي كانت في احتياج آنذاك إلى إدخال تعديلات كبرى على سياساتها. أما أزمة اليوم فقد انطلقت من البلدان الصناعية الغنية - ليس فقط بقروض الرهن العقاري الثانوي في الولايات المتحدة، بل أيضا في ظل سوء إدارة البنوك والديون العامة في أوروبا. ما الذي قد تتعلمه أوروبا من دروس إذن، وما مدى أهمية هذه الدروس بالنسبة إلى بقية العالم؟
إن المشكلات المعاصرة التي تواجه أوروبا شبيهة إلى حد مذهل بمشكلات تعرض لها المحيط الخارجي للاقتصاد العالمي في فترات سابقة. ففي خضم موجات متتالية من الأزمات المؤلمة - في أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، ثم شرق آسيا بعد عام 1997 - تعلمت البلدان نهجا أفضل في التعامل مع السياسة الاقتصادية وعملت على تطوير إطار عمل أكثر استدامة في إدارة ديون القطاع الخاص. واليوم حان دور أوروبا.
إن الأزمة الأوروبية تأتي في دائرة كاملة. ففي مستهل الأمر كانت أزمة مالية، ثم تحولت إلى أزمة ديون عامة كلاسيكية بعد تدخل الحكومات لضمان التزامات البنوك. وهذا بدوره أدى إلى خلق مجموعة جديدة من المخاوف بالنسبة إلى البنوك المفرطة التعرض للديون الحكومة التي يفترض أنها آمنة. ولم تعد الديون السيادية تبدو مستقرة.
من بين أكثر السوابق أهمية في هذا السياق كارثة ديون أمريكا اللاتينية التي اندلعت قبل 30 عاما تقريبا. ففي آب (أغسطس) من عام 1982 صدمت المكسيك العالم حين أعلنت عجزها عن سداد أقساط ديونها. وطيلة القسم الأعظم من ذلك الصيف كانت المكسيك، التي بلغ عجزها المالي المتوقع نحو 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مستمرة في الاقتراض في الأسواق المالية الدولية، ولو بعلاوة خطر أعظم. ويبدو أن البنوك كانت تطمئن نفسها باعتقاد مفاده أن الدول من غير الممكن أن تعجز تماما عن سداد ديونها. ولكن سرعان ما بدأت دول مختلفة في السقوط كصف من أحجار الدومينو.
وفي حين شهدت المكسيك رواجا قائما على عائدات النفط في أعقاب صدمة أسعار النفط الثانية في السبعينيات، فإن الأرجنتين كانت تعاني سوء الإدارة الاقتصادية في ظل الدكتاتور العسكري الذي شن آنذاك غزوا أسفر عن عواقب مأساوية لجزيرة فوكلاند. وكانت البرازيل قد شهدت نسخة سابقة من معجزتها الاقتصادية الحالية، حيث سجلت معدلات نمو مذهلة موَّلتها الواردات من رؤوس الأموال. ولكن في النهاية أدت هذه الظروف المختلفة إلى نشوء مشكلة مشتركة وبسيطة في طبيعتها: الإفراط في الاستدانة.
كان العجز عن سداد الديون في أمريكا اللاتينية ليسقط الأنظمة المصرفية في مختلف البلدان الصناعية الكبرى، وكان ليحدث حالة أشبه بنسخة مكررة من أزمة الكساد الأعظم في الثلاثينيات. وكان التعرض للديون المكسيكية فقط يمثل نحو 90 في المائة من رؤوس أموال البنوك الرئيسية في الولايات المتحدة.
وكان الحل الذي تم تبنيه في نهاية المطاف يُعَد عبقريا في ذلك الوقت؛ وذلك لأنه تجنب العجز الرسمي عن سداد الديون من جانب أي من كبار الدول المقترضة في أمريكا اللاتينية (ولو أن البرازيل تخلفت لفترة وجيزة عن سداد ديونها بعد خمسة أعوام، أي في عام 1987). ولقد اشتمل الحل على مجموعة من ثلاثة عناصر: المساعدة الدولية الفورية عن طريق صندوق النقد الدولي؛ والتقشف المحلي الشديد الذي فرضته برامج صندوق النقد الدولي التي اشتملت على شروط لم تحظ بأي قدر من الشعبية؛ والتمويل الإضافي الذي وفرته البنوك.
ولم يحدث شطب مؤسسي لديون أمريكا اللاتينية إلا بعد مرور خمسة أعوام منذ اندلاع الأزمة، حين لم يعد من المحتمل أن تؤدي عملية التقليم إلى تهديد استقرار البنوك. وفي تلك اللحظة فقط بات من الممكن أن يبدأ الإقراض الحقيقي للمشاريع الجديدة. وفي الوقت نفسه ظلت أمريكا اللاتينية غارقة في ما أصبح يعرف على نطاق واسع بالعَقد الضائع.
ويبدو أن الحل الأوروبي المعاصر يشكل تكرارا لتكتيكات شراء الوقت نفسها التي انتهجت أثناء العقد الضائع في فترة الثمانينيات في العالم النامي. فهناك التركيبة نفسها من الدعم الدولي، وتدابير التقشف الممقوتة في الداخل (التي من المحتم أن تفجر احتجاجات كبرى)، وإعفاء البنوك من المسؤولية المالية عن المشكلات التي أحدثتها.
لقد عرضت البنوك الأوروبية الكبرى - في المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا - كما فعلت نظيراتها في فترة الثمانينيات، لقدر هائل مما اعتبرته على سبيل الخطأ ديونا آمنة. والواقع أن أي خفض فوري كبير للديون السيادية لبلدان منطقة اليورو المعرضة للخطر من شأنه أن يكون مدمرا إلى الحد الذي قد يؤدي إلى انطلاق جولة جديدة من الذعر المصرفي. وبإدراكها لهذه المشكلة فإن البنوك تستطيع الاحتفاظ بالحكومات التي تستضيفها كفدية. ولهذا السبب أصبحت الأزمة تشكل تحديا خطيرا لكل من المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا.
والواقع أن المبادرة الفرنسية الألمانية التي تم الكشف عنها في دوفال في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر)، وهي المبادرة التي ستتطلب بعض التدابير الممكنة لإعادة هيكلة الديون الصادرة بعد عام 2013، حاولت تجنب إحداث صدمة مباشرة بتقليم الديون. ولكن الإعلان المسبق عن احتمالات شطب الديون أدى إلى موجة كبرى من عدم اليقين بشأن البنوك.
وثمة بديل آخر طويل الأمد يتطلب بعض القدرة على شطب الديون كلما بلغت مستويات مفرطة. ولكن من الضروري أيضا أن يتم إنشاء ضمانة قوية لجزء ما من الديون المستحقة، من أجل إزالة المخاوف بشأن الشطب الكامل للديون.
إن الآلية القادرة على التعامل بشكل منتظم مع الإفلاس السيادي ستشكل إسهاما كبيرا في تعزيز الحوكمة العالمية، وحل المشكلة القديمة المتمثلة في أسواق الديون السيادية. والواقع أن مثل هذه المقترحات نوقشت على نطاق واسع في التسعينيات وأوائل العقد الحالي، وكانت نائبة المدير الإداري لصندوق النقد الدولي آن كروجر تدعو إلى إنشاء آلية لإعادة هيكلة الديون السيادية، وكانت هذه الآلية لتقدم المسار القانوني اللازم لفرض التقليم العام على الدائنين، وبالتالي إنهاء مشكلات العمل الجماعي التي تعوق الحلول التي تتسم بالكفاءة لمشكلة الإفلاس السيادي.
إذا تمكنت أوروبا - في ظل أسوأ سيناريوهات العجز السيادي - من إظهار الكيفية التي قد تتم بها مثل هذه العملية، فإن هذا من شأنه أن يحد بدرجة كبيرة من حالة عدم اليقين وأن يعيد الطمأنينة إلى الأسواق. وفي الأمد الأبعد سيصبح لدينا نموذج دولي قابل للتطبيق فيما يتصل بكيفية التعامل مع مشكلات الديون السيادية الحادة.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي