هل اقتصادنا نخبوي؟
يتميز هيكل الأسواق، سواءً أسواق العمل، أو أسواق المنتجات، في الدول النامية، وفي المملكة بالتحديد، بتركيبة فريدة تعكس إلى كبير مصالح القوى المختلفة في هذا الاقتصاد. وأكثر ما يميزه هو عدم العمق في كثير من المجالات، فالسلع تنتج بواسطة عدد قليل من المنتجين، والخدمات كذلك بمختلف أشكالها تقدم بواسطة عدد قليل من مقدمي الخدمة، وحتى التجارة يمارس عملية الاستيراد والتصدير فيها لعدد من السلع أسماء معروفة منذ أكثر من 50 سنة. الحصرية هي سمة تميز اقتصادنا بشكل كبير، والسؤال هل هذه (الحصرية) أو ما قد نسميها (النخبوية) في ممارسة الكثير من الأنشطة التجارية، هي عامل إيجابي أم عامل سلبي يحد من قدرة الاقتصاد على النمو ويقلل من تنوع الخدمات والمنتجات والسلع في هذا الاقتصاد.
من ناحية تاريخية، ترسخت هذه (النخبوية) لسبب رئيس، هو عدم توافر البديل، حيث كانت التجارة والاستثمار تتركز في بيوت وأسماء محددة. وفي المراحل الأولى لإنشاء البنى التحتية للاقتصاد السعودي، وجدت هذه الأسماء فرصة كبيرة للنمو وترسيخ أسمائها في قطاعات معينة. فالسلع الأساسية كالأرز والسكر تستوردها أسماء معروفة، والمقاولات تقوم بها شركة أو شركتان معروفتان، والسيارات تستوردها أسماء معروفة، وهكذا. لكن مع تحسن ظروف الاقتصاد، وتحسن مستويات التعليم، وانفتاح المواطن السعودي على الدول الأخرى، بدأت أسماء أخرى من هنا وهناك بالظهور، ولكن بشكل محدود للغاية. واستمر الوضع على ما هو عليه حتى يومنا هذا.
كيف تؤثر هذه الظاهرة في نمو الاقتصاد السعودي وتنوعه، وهل تتفق إلى حد كبير مع أهدافه التنموية بتحقيق التنوع في موارده وفي قطاعاته الإنتاجية؟ وهل أسهمت هذه النخبوية في تأسيس قطاعات اقتصادية كبيرة تسهم في توظيف عدد كبير من المواطنين، وبالتالي تحقق قيمة مضافة للاقتصاد، أم أنها اكتفت بالاستفادة مما توفره البيئة الاقتصادية النخبوية من ميزة نسبية، مما جعلها تركز فقط على نمو أنشطتها، دون اعتبار لدورها المهم في الاقتصاد؟ كيف يؤثر ذلك في هيكل الإنتاجية في الاقتصاد السعودي في مختلف القطاعات، وبالتحديد كيف يؤثر في كفاءة الإنتاجية في الاقتصاد السعودي؟ ما علاقة هذه النخبوية الاقتصادية بمؤشرات الاقتصاد الكلي كالنمو والبطالة ومؤشرات الأسعار؟
كل هذه أسئلة تبحث عن إجابات للتعرف على مبررات تميز اقتصادنا والهيكل الإنتاجي فيه بهذه النخبوية الاقتصادية التي لا تجدها في الاقتصادات المتقدمة. التنوع يخلق جوًّا من المنافسة والتنوع في الخدمات والمنتجات من حيث جودتها، وليس بالضرورة فقط من حيث أسعارها. فالسعر عامل مهم لتقييم الخدمة والمنتج، لكن الأهم من ذلك هو الجودة مقارنة بالأسعار. التنوع يشجع المنافسة الخلاقة التي تؤدي إلى نشر ثقافة الإبداع، بينما النخبوية الاقتصادية تسهم في ترسيخ الإحباط واليأس بين الكثير ممن يطمحون إلى البروز في عالم الأعمال، كما أنها تسهم في ترسيخ الطبقية الاقتصادية في عالم الأعمال، حيث تكون قطاعات معينة محصورة على فئات وأسماء معينة.
أضف إلى تلك العوامل السلبية، أن النخبوية الاقتصادية قد تتحول في أسوأ حالاتها إلى ظاهرة اجتماعية اقتصادية خطيرة، فالقوة التفاوضية التي يمنحها الاقتصاد النخبوي للنخبويين، سواءً في مواجهة الدولة أو في مواجهة المواطن، تجعلهم يؤثرون بشكل كبير في الكثير من القرارات الاقتصادية البحتة بما يخدم ويعزز من مصالحهم الشخصية، دون اعتبار للمصالح العامة، وبالتالي يقوض من فعالية السياسات الاقتصادية في تحقيق النمو والرفاه الاقتصادي المطلوب، فهم يملكون قوة تفاوضية فيما يتعلق بالأسعار والجودة ونوعية الخدمة المقدمة، كما أنهم يستطيعون الحصول على امتيازات لا تمنح لغيرهم فيما يتعلق بالأنظمة التي تحكم الأسواق والمنتجات، كأنظمة أسواق العمل على سبيل المثال، والأهم من ذلك كله، هو قدرتهم على الوصول إلى متخذ القرار، وبالتالي قدرتهم على التأثير في قراراته.
تنشأ النخبوية الاقتصادية في بيئة تتميز بانخفاض الشفافية، وتترعرع وتنمو في هذه البيئة، ولا يمكن أن تنمو في بيئة غيرها، فهي بمثابة الماء والتراب والهواء اللازم لنموها. وانعدام الشفافية والمعلومة Uncertainty يوفر للنخبويين ميزة نسبية على غيرهم ممن يرغبون في ارتياد الأعمال Entrepreneurs، حيث يتميز النخبويون بالقدرة على الحصول على المعلومة، والاستفادة منها لتعزيز مصالحهم الشخصية. أضف إلى ذلك، أن هذه النخبوية قد تتطور إلى أن تصل إلى أسوأ مراحلها في التنافس على الحصول على المعلومة وعلى الاستفادة منها بين النخبويين أنفسهم، أو بينهم وبين غيرهم ممن يرغبون في ارتقاء سلم النخبوية، مما يخلق بيئة ملائمة لنمو وترعرع الكثير من الممارسات غير النظامية.
وأخيراً، فإن تقدم الدول اقتصادياً يرتبط إلى حد كبير بتنوع القطاعات الإنتاجية فيها، وبمقارنة الدول، تجد أن الدول المتقدمة هي تلك الدول التي تجد فيها تنوعاً كبيراً في القطاعات الإنتاجية والأسماء التي تمتلك هذه القطاعات. بالطبع هناك أسماء راسخة منذ زمن، لكن ذلك لم يمنع من ظهور أسماء أخرى، وسقوط أسماء قديمة ذات عراقة. أي أن هناك تبادلا للأدوار بين فترة وأخرى، مما يوجد بيئة واعدة ومليئة بالفرص، تشجع على خوض غمار المخاطر للحصول على هذه الفرص. بينما في الدول النامية، فإنه لا يوجد هذا النوع من التبادل للأدوار، بل إن الأسماء النخبوية التي تسمع بها هي نفسها منذ أن ولدت إلى أن تموت بعد عمر طويل.