رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ساركوزي .. ماذا بقي من «الاتحاد من أجل المتوسط»؟

يبدو أن الإعلان عن تأجيل قمة ''الاتحاد من أجل المتوسط'' الثانية إلى أجل غير مسمى من طرف الرئاسة الفرنسية، بعد أن كانت مقررة في مدينة برشلونة في 21 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، هو بمثابة إعلان نهاية مشروع الاتحاد وفشل فكرته، وبالتالي فإن المشروع الذي أراد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن يكون وريثاً ومنقذاً لمشروع الشراكة الأوروبية المتوسطية، أو ما عرف باسم عملية أو ''مسار برشلونة''، يلاقي المصير ذاته، وذلك على الرغم من الجهود الحثيثة والكبيرة التي بذلتها كل من الدبلوماسية الفرنسية والإسبانية، خلال الأشهر القليلة الماضية، من أجل إنعاش ما تبقى من الاتحاد وإقناع الأطراف العربية للمشاركة في القمة الثانية له.

فكرة المشروع
وتعود فكرة مشروع الاتحاد من أجل المتوسط إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي علّق آمالاً كبيرة على تحقيقها، كونه اعتبر منطقة البحر الأبيض المتوسط منطقة أوروبية، ذات نفوذ فرنسي قبل كل شيء، وليست منطقة نفوذ أمريكي، حسبما يشير واقع الحال. وأصبح المشروع المتوسطي يشكل هاجساً حقيقياً بالنسبة إليه، منذ خوضه حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية. وبعد وصوله إلى السلطة، بدأت سياسته تتمحور حول العمل على تحقيقه، بينما لم تقبل معظم دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، وخاصة ألمانيا، بهذا الطموح الفرنسي لاحتكار المجال المتوسطي والاستفادة منه على حسابه، فقامت بتعديل فكرة الاتحاد بما يضمن مشاركة جميع الدول الأوروبية، ثم أصبح مشروعاً أوروبياً بعد أن تبناه الاتحاد الأوروبي لاحقاً.
وعقدت القمة التأسيسية للاتحاد في باريس في 13 من تموز (يوليو) 2008، وخرجت بإعلان، سمي ''إعلان باريس'' يطالب بـ ''توسيع التعاون في مجالات مثل تنمية الشركات والمؤسسات والتجارة والبيئة والطاقة، وإدارة المياه والزراعة وسلامة الأغذية، وأمن التموين الغذائي والنقل والمسائل البحرية، والتعليم المهني والعلوم والتكنولوجيا والثقافة، ووسائل الإعلام والعدالة والقانون، والأمن والهجرة والصحة، وتعزيز دور المرأة في المجتمع، والحماية المدنية والسياحة والعمران والمرافئ، والتعاون اللامركزي ومجتمع المعلومات والأقطاب التنافسية''. وانضوت تحت عضوية الاتحاد 43 دولة، ثمان منها عربية، إلى جانب تركيا ودول الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. وأقرّت القمة مشاريع اقتصادية وتجارية وبيئية عديدة، كان الهدف الرئيس المعلن منها، يتجسد في إقامة منطقة تجارة حرة في المتوسط، وبما يعني فتح جنوب المتوسط وشرقه، بلا حدود، أمام المنتجات والاستثمارات الأوروبية.

تجسير الهوة بين الضفتين
يحيل مشروع ''الاتحاد من أجل المتوسط'' إلى أهداف عديدة، تعكس حاجة الأوروبيين إلى منفذ طبيعي يوسع مجالهم الجغرافي والسياسي في ظروف عالمية تفرض إشادة وتوسيع التكتلات الاقتصادية والإقليمية. وحاول الأوروبيون من خلاله إيجاد صيغة للتعاون بين دول المتوسط في الشمال والجنوب، تكون بمثابة بديل عن الالتحاق بركب السوق الأوروبية المشتركة، مع إمكانية تعاون معين مع تركيا في وقت لاحق، مقابل إبعادها عن نيل عضوية الاتحاد الأوروبي. لكن الأوروبيين يحسبون، على الدوام، حسابات تصبّ في مصلحة الحدّ من هجرة اليد العاملة والعاطلين والهاربين من الدول المغاربية ومن الدول الإفريقية باتجاه دولهم، لذلك تحدثت الدول الأوروبية عن أن المشروع الإقليمي يدعم مشاريع وخطط التنمية في البلدان المغاربية، مع مطالبتها باحترام حقوق الإنسان ونشر مبادئ الديموقراطية وسوى ذلك.
وبغية الحفاظ على هذا المشروع قدمت الإدارة الفرنسية، برئاسة ساركوزي، تنازلات كثيرة لإرضاء حلفائها في الاتحاد الأوروبي، منها تغيير اسم الاتحاد من ''اتحاد البلدان المتوسطية'' إلى ''الاتحاد من أجل المتوسط''، وذلك كي يضم جميع البلدان الأوروبية، وقبلت بوضع المشروع في سياق الاتفاقات الأورومتوسطية التي شكلت منذ 1995 الإطار السياسي والقانوني الرئيس للتعاون بين ضفتي المتوسط، بما يعني ربطه بمسار برشلونة الذي توقف منذ عام 2005، عندما رفضت البلدان العربية حضور القمة التي استضافتها برشلونة في الذكرى العاشرة لانطلاقه، بسبب تعطل مسار تسوية الصراع العربي الإسرائيلي.
واعتبر الأوروبيون أن هدف الاتحاد المتوسطي الجديد هو رأب الصدع المتزايد بين ضفتي المتوسط على مختلف الصعد، السياسية والاقتصادية والثقافية، من خلال التركيز على تحقيق مشاريع ملموسة، تخص ميادين التعاون الاقتصادي والبيئة والهجرة والأمن والحوار الثقافي، وبما يمكّن الاتحاد من تجاوز الأسباب التي أدت إلى فشل مسار برشلونة، والعمل على تقريب شعوب المتوسط وأوروبا بعضها من بعض. ويفضي هذا العمل المنهج إلى التعاون في الأمور التي يحصل من حولها اتفاق وتفاهم، فيما تترك قضايا الصراع السياسي العربي ـــ الإسرائيلي، ومعها القضايا الشائكة الأخرى من ديمقراطية وحقوق إنسان وسواها، إلى مرحلة أخرى لاحقة.
غير أن السعي الفرنسي، من وراء هذه الأهداف التي تنادي بتجسير الهوة بين ضفتي المتوسط، هو تحقيق غاية رئيسية، تتمثل في استعادة مكانتها في منطقة تكاد تخرج من تحت نفوذها، خاصة في بلدان المغرب العربي التي تهمها بشكل مباشرة، بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي والحساس بالنسبة إليها، وإلى حجم الاستثمارات الاقتصادية والثقافية، وتنامي دور وقوة التنظيمات الإسلامية المتشددة، وتأثير مجمل ذلك على أمن فرنسا واستقرارها، بوصفها تضم أكبر جالية أوروبية من أصول عربية إسلامية لم تنجح بعد في استيعابها أو دمجها في المجتمع الفرنسي.
واعتقدت الإدارة الفرنسية أن خلق الروابط مع بلدان المغرب العربي، ومعها باقي الدول العربية التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، يمكن أن يتم من خلال استخدام لغة العواطف والذاكرة والتاريخ، إلى جانب لغة المصالح والاستثمارات، الأمر الذي يفضي إلى استعادة النفوذ الفرنسي في المتوسط وتأكيد حضور فرنسا، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وتعزيزه في سياق التنافس مع النفوذ الأمريكي في كامل منطقة البحر المتوسط. واعتبرت فرنسا أن المشروع المتوسطي رابح للجميع، وخصوصا سورية، التي هي بحاجة إلى هذا المشروع المتوسطي، كونه يشكل - بالنسبة إليها - منعطفاً استراتيجياً، يخرجها من حال العزلة الدولية التي كانت قد فرضتها إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، ويبعدها عن المحور الإيراني. وتحدث الفرنسيون عن هوية متوسطية تجمع جميع الأطراف، ويمكنها التعويض عن ضعف هذه الاستثمارات الإستراتيجية والمادية، والأهم هو أن بإمكانها تجاوز الصراع العربي الإسرائيلي أو تحييده على الأقل، وهو أمر تسعى إليه كل من الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل.
وإن كان من مصلحة الدول العربية جميعاً، وليس فقط البلدان المطلّة على البحر المتوسط، تحقيق تنمية إنسانية مستدامة، تركز على حقوق الإنسان، وتوفر له فرص العمل الملائمة، وتوقف نزيف الهجرة التي تذهب بالقدرات العملية وبالكفاءات التي تحتاج إليها هذه البلدان في مختلف المجالات، إلا أن المشروع الأوروبي يخفي أهدافاً مركزية، تتمحور في ضم إسرائيل إلى المشروع الإقليمي، وتطبيع العلاقة معها، بوصفها دولة متوسطية مهمة، لها علاقات مميزة من دول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن اتفاقات الشراكة الاقتصادية معها وعلاقتها العسكرية بحلف شمال الأطلسي، وهو أمر لا ترتقي إليه أي من الدول العربية. وبالتالي فإن ضم إسرائيل إلى مشروع الاتحاد من أجل المتوسط يفضي إلى الالتفاف على القضية الفلسطينية وقبول الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، ومحاولة للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي قبل إنهاء الاحتلال وحل القضية الفلسطينية من خلال التوصل إلى حلّ الدولتين وإرساء دعائم السلام الشامل والعادل في المنطقة. وقد شكك عديد من المحللين العرب في نجاح الاتحاد المتوسطي منذ البداية، واعتبروا أن إخفاقه هو إخفاق في الوصول إلى هدفه الحقيقي وغير المُعلن، وهو تحقيق تطبيع بين العرب وإسرائيل، وتلك هي الغاية النهائية، بعيدا عن كل التصريحات الرنَّـانة عن التضامن وتجسير الهوة بين شعوب الضفتين.

أسباب الفشل
لا شك في أن السبب المباشر لفشل عقد القمة الثانية للاتحاد من أجل المتوسط، يرتبط بتوقف وتعثر مسار التسوية السلمية في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة بعد فشل المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية المباشرة، التي رعتها ودفعت إليها الولايات المتحدة، واصطدمت بإمعان الطرف الإسرائيلي في المضي في سياسة الاستيطان والاحتلال وإدارة الظهر لأية فرصة تسوية أو سلام مع العرب تلوح في الأفق. لكن هذا السبب لا يفسر لوحده فشل المشروع المتوسطي، لأن هناك جملة من العوامل السياسية والاقتصادية، إضافة إلى وجود خلافات داخل دول الاتحاد الأوروبي نفسه حول فكرة المشروع وجدواه، لذلك يعتبر عديد من الأوروبيين أن فشل هذا الاتحاد المتوسطي يرفع عنهم الحرج، نظراً لعدم تحمسهم لدعم فكرة المشروع منذ الانطلاق، حيث اعترضت – منذ البداية - ألمانيا ومعها عدد من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، على انفراد ساركوزي بالمشروع، فأدخلوا عليه تعديلات، طاولت صورة الاتحاد وهيكلته، واشترطوا عدم تخصيص موازنات واعتمادات له، كما رفضوا على وجه الخصوص إنشاء هيكل بيروقراطي لإدارته.
ولم يكن مصير المشاريع الاقتصادية، التي أدرجت في إطار ''الاتحاد من أجل المتوسط''، سوى التعثر والتوقف، وفي مقدمتها مشروع ''الخطة الشمسية المتوسطية''، التي كانت تهدف إلى إنتاج 20 جيجاويت من الطاقات المتجددة مع حلول عام 2020، وكذلك مشروع المياه المتوسطي الرامي لتنظيف البحر المتوسط من التلوث بحلول العام نفسه، كما أن ''خطة النقل المتوسطية'' الرامية لتشبيك الضفتين لم يكن مصيرها أفضل من المشروعين السابقين، بسبب شحّ التمويل. ويضاف إلى ذلك فشل اجتماع وزراء المياه المتوسطيين في نيسان (أبريل) 2010، بسبب الخلاف وفود الدول العربية وإسرائيل على الإشارة إلى ''الأراضي المحتلة''.
ويمكن القول إن من أسباب فشل الاتحاد من أجل المتوسط هو تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية، وتأثيرها في معظم الدول الأوروبية، خصوصاً بعد إفلاس اليونان وإيرلندا. ولم تكن فرنسا تتوقع مدى تأثير وعمق الأزمة حين طرح رئيسها المشروع، إضافة إلى ضعف الميزانية التي اعتمدت له، وعدم وضوح البرامج وضبابية المشاريع المقترحة. كما لم يقدم الأوروبيون المساعدات التي اقترحوها لبلدان المغرب العربي، حيث يصل إلى هذه البلدان سوى ثلث المبالغ الموعودة منذ عام 2005. ونظرياً، بلغت تكاليف مسار برشلونة نحو 20 مليار يورو، لكن معظمها عاد إلى الشركات الأوروبية ومؤسساتها الدولية ومنظماتها غير الحكومية، التي تقدم سوى الدراسات والاستشارات لمشاريع توقفت أو لم تقم لها قائمة على الأرض، لكن أصحاب الشركات استفادوا من هذه المبالغ، بشكل مباشر أو غير مباشر، وجرى تحويل وجهة بعض التمويلات التي كانت مخصصة لبلدان المغرب العربي من طرف الاتحاد الأوروبي، إلى بعض دول أوروبا الشرقية، لدعم اقتصادها ومساعدتها على تحقيق الاندماج في نسيج النادي الأوروبي. إضافة إلى أن الأوروبيين كانوا غير متحمسين لصرف المزيد من المال لتمويل المشاريع المتوسطية، حيث اعترف، مؤخراً، هنري جوينو، المستشار الخاص للرئيس نيكولا ساركوزي، أمام لجنة تابعة لمجلس الشيوخ الفرنسي، أن المشاريع الأولى التي تمّ إدراجها في إطار الاتحاد من أجل المتوسط، تحتاج لاستثمارات بقيمة 80 مليون يورو، ولم يتم تأمين هذا المبلغ، خاصة في ظروف الأزمة والركود اللذين يضربان الاقتصادات الأوروبية. وجاءت الحرب على غزة، ضمن ما سمي بعملية ''الرصاص المسكوب''، التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة بين أواخر 2008 وبداية 2009، لتوجه ضربة قوية لمشروع الاتحاد المتوسطي، نظراً لوقوف فرنسا ورئيسها شخصياً مع العدوان الإسرائيلي، على الرغم من استنكار شعوب العالم له، وكذلك وقفت معظم دول أوروبا مع العدوان الإسرائيلي، وزاد من ترنح الاتحاد من أجل المتوسط ودخوله مرحلة الاحتضار تعثر وفشل المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية بسبب الإصرار الإسرائيلي على الاستيطان، وبالتالي فإن مسار الاتحاد المتوسطي وقع في المطبِّ نفسه الذي وقع فيه مسار برشلونة، من جهة أن الفرنسيين ومعهم الأوروبيون كانوا يعتبرون أن المشاريع الإقليمية مدخل لتحقيق السلام والاستقرار في منطقة البحر المتوسط، ومعها منطقة الشرق الأوسط. ولا يفسر فشل مشاريعهم بشح الأموال فقط، لأن المال كان متوافراً وموجوداً على الطاولة في مسار برشلونة ومع ذلك توقف، لذلك عليهم أن يضغطوا على الطرف الإسرائيلي، وأن يعملوا بجد لحل مشكلة الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، لأن المراهنة فارغة وغير مجدية على إحراز التقدّم في تحقيق المشاريع من دون العمل لإيجاد حلّ سياسي عادل وشامل للصراع العربي الإسرائيلي. وبالتالي، فإن عدم إيجاد حلّ عادل للقضية الفلسطينية جعل مصير مسار الاتحاد من أجل المتوسط يشابه مصير مسار برشلونة، إذ بات من الواضح أن هذا الاتحاد يحتضر وسيلاقي حتفه، نظراً لأن آفاق إنعاشه في المرحلة المقبلة محدودة، في ظل تأزم الصراع العربي الإسرائيلي وانسداد آفاق الحل السلمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي