انعدام الشفافية يثير التساؤلات
في بعض الأحيان حين تغيب الحقيقة المتمثلة في الإحصائيات والأرقام، يجد المرء نفسه تائهاً في تحديد موقفه إزاء موضوع من المواضيع، أو جهة حكومية، أو شركة يفترض أن تقدم خدمة للمجتمع. في متابعتي للصحف والمجلات الصادرة في بلادنا لمست حالة التوهان وعدم القدرة على تحديد الموقف، أو اتخاذ رأي بشأن بعض المواضيع عدة مرات، خاصة في قضايا يمكن اعتبارها شائكة، كما في الموقف من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كما في الموقف من هيئة الاستثمار، أو الموقف إزاء شركات الطيران العاملة في بلادنا.
تشهد الصحافة جدلاً واسعاً وكثيراً بشأن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن بعض الكتاب ربما جعلوا الهيئة تخصصهم ــ خاصة حين تقع هفوة هنا أو هناك من رجل هيئة، أو من متقمص لرجل هيئة لا يعلم ما الهدف من فعله هذا ــ وفي ظني أن كثيراً من الجدل الذي يدور في الساحة الإعلامية إزاء الهيئة مرده في كثير من الأحيان الموقف المسبق الذي يوجد عند البعض، والذين حددوا موقفاً سلبياً أو رافضاً لدور الهيئة، ولذا ليس أمامهم إلا الكتابة والترويج بما يتفق مع مواقفهم السلبية هذه، ولكن لو أعطى مثل هؤلاء أنفسهم فرصة التبصر بعمق فيما تحققه الهيئة من إنجازات في حماية المجتمع من الانحرافات، لراجع هؤلاء مواقفهم وبدلوها ليكونوا في صف المدافعين عن الهيئة حماية للفضيلة، ودرءاً للرذيلة والفساد. ولعل الهيئة يكون ضمن جهودها الإعلامية إحصائيات شهرية وسنوية تكشف الإنجازات المتحققة في مجال اختصاصها، لأن غياب مثل هذه الحقائق يكسب الطرف المعادي للهيئة فرصة الاستمرار في هجومه، ونقده غير المبرر.
خلال الشهور الماضية شهدت الساحة الإعلامية نقاشاً حاداً بين الكتّاب والمثقفين بشأن هيئة الاستثمار العامة، فمن ناقد لها ولدورها في جلب الاستثمارات الأجنبية، والذي هو مجال اختصاصها الذي من أجله أنشئت، إلى مدافع عنها معتبراً جهودها نجاحات تحسب لها في تنمية المجتمع وخدمة أبنائه. في صحيفة واحدة من صحافتنا كتب الكثير عن هيئة الاستثمار، وكتبت كتابات على طرفي نقيض، حيث يتهم أحد الكتاب الهيئة بالفشل في مهمتها، وأن المشاريع التي رخصت لها ما هي إلا مطاعم وبوفيهات، والعاملون فيها هم من الأجانب المقيمين في البلد منذ سنين، وبرأسمال هو رأسمال وطني، ولذا لم يستفد الوطن من هؤلاء شيئاً سوى أنهم جلبوا أقاربهم، وأبناء ضيعاتهم للعمل في مشاريع المطاعم والبوفيهات.
أما الفريق الآخر المدافع عن هيئة الاستثمار فهو يرى النجاح كل النجاح، وأن الهيئة حركت الميدان الاستثماري، وجلبت الكثير من الاستثمارات الأجنبية التي وظفت أبناء الوطن ونقلتهم من خانة العاطلين إلى خانة العاملين المنتجين، ومن خانة الفقراء إلى خانة الأغنياء، أو على أقل تقدير المكتفين مادياً.
وبين هذين الطرحين المتناقضين يبقى المواطن العادي، وتبقى الحقيقة غائبة، ولذا لابد من أن تكون الشفافية هي الأساس، لأن المواطن والوطن يحتاجان إلى المعلومة الدقيقة ومعرفة الحقيقة، فما الذي يمنع هيئة الاستثمار من أن تكشف أوراقها، وتعرض الحقائق بشأن إنجازاتها وإخفاقاتها؟! ولا عيب في ذلك لأن تبصير المواطن والمسؤول بالواقع يساعد على اتخاذ القرار المناسب الذي تعود آثاره الإيجابية عاجلاً وآجلاً على الوطن والمواطنين، بدلاً من إخفاء الحقيقة وجعل الناس يلاحقون شعارات لا يجدون لها أساساً على أرض الواقع، خاصة إذا علمنا أن من أهداف جلب الاستثمارات الأجنبية إعطاء مزيد من الفرص لتوظيف السعوديين بدلاً من تركهم يعانون الفراغ وقلة ذات اليد، خاصة وهم يرون وطنهم يزخر بالخيرات التي يتمتع بها الأجنبي الذي استثمر أموال الوطن في مطاعم، وورش يعمل فيها أبناء جلدته الذين استقدمهم لهذا الغرض. إن من حق الوطن والمواطنين معرفة كم المبالغ المالية الأجنبية التي دخلت الوطن للاستثمار بها في مجالات مفيدة، إضافة إلى معرفة كم من السعوديين توظفوا في المشاريع الاستثمارية بدلاً من ترك الأمور عائمة بهذا الشكل.
الجدل والنقاش طالا أيضاً شركات الطيران وهي ''الخطوط السعودية''، و''ناس''، و''سما''. ومع ما نجده من سوء خدمة من قبل الشركات هذه، إلا أن الأساس في مناقشاتنا بشأنها يفترض أن يكون مبنياً على أساس البحث عن الخدمة الأفضل والسعر الأفضل، وهذا ما تفتقده بعض الكتابات التي تدافع عن بعض شركات الطيران لمجرد الدفاع، مع غياب مؤشرات جودة الخدمة في مثل هذه المناقشات. إن حضور الذاتية وغياب الموضوعية يجعل من بعض الكتاب لا يرى إلا نصف الحقيقة، بل ربما لا يرى الحقيقة بكاملها.