أبشر بطول سلامة يا مربع
تتناقل وسائل الإعلام المختلفة منذ سنوات التهديدات المباشرة وغير المباشرة التي تُطلقها الولايات المتحدة وحكومة إسرائيل حول الهجوم المحتمل على مُنشآت إيران النووية. ومما لا شك فيه أن نسبة كبيرة من شعوب العالم تأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد، ربما لأن تلك الدولتين لهما سوابق في الاعتداءات العدوانية غير المبررة على دول مسالمة، مثل العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان والسودان وسوريا. ونود أن نوضح هنا أن الوضع مع إيران مختلف تماماً، ليس فقط من حيث قوة إيران الدفاعية، قياسا لدول المنطقة الأضعف، ولكن هناك اعتبارات إقليمية أكثر أهمية من المكاسب العسكرية وتأثيرات اقتصادية لا مفر منها قد تهوي بالاقتصاد العالمي إلى الحضيض. فبفضل موقع إيران الجغرافي واحتمال تحكمها بمضيق هرمز، وهو من المنافذ العالمية المهمة التي تمر بها يوميا ملايين الأطنان من النفط، سيكون أي اعتداء على إيران بمنزلة عملية انتحارية من الوزن الثقيل. ومن البديهي أنه في حالة إقدام القوات الأمريكية، أو أي دولة أخرى بمباركة من الولايات المتحدة، على ضرب المنشآت النووية الإيرانية فإن أسعار النفط ستقفز إلى مستويات خيالية. وهذا كل ما يحتاج إليه الاقتصاد العالمي الهش لينهار للمرة الثانية في غضون سنوات قليلة، ولكنه لن يتعافى من الكبوة المقبلة بسهولة. وبصرف النظر عن مقدار الدمار الذي سيصيب المنشآت الإيرانية والاقتصاد الإيراني وإثارة نقمة الشعب الإيراني، فإن الأشد نقمة وغضباً على الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، إن أصبحت شريكة في جريمة الاعتداء، ستكون من شعوب العالم أجمع التي ستعاني الأمرَّين من الصعود المفاجئ لأسعار الطاقة بسبب توقف نسبة كبيرة من الإنتاج النفطي التي عادة تمر عبر مضيق هرمز.
ولذلك، فنحن نستبعد إلى أبعد الحدود قيام الولايات المتحدة بضرب المرافق الإيرانية أو إعطاء الضوء الأخضر لدولة إسرائيل بالتعدي على الأراضي الإيرانية بمباركة أمريكية، وإسرائيل أعجز من أن تُغامر وحدها دون مساندة عسكرية من القوات الأمريكية. ولا نعتقد أنه يخفى على المراقبين أن الضجة المفتعلة من قِبل الحكومة الأمريكية حول التهديد بضرب المنشآت النووية ما هو إلا نتيجة للضغوط الصهيونية في إسرائيل التي لا يهمها ما سيحدث للعالم من ارتباك اقتصادي وإثارة لعدم الاستقرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط. أما ما يدعو إلى الحيرة والاستغراب، فهو أن الدولة اليهودية كانت لها علاقة حميمة مع الشعب الإيراني قبل ثورة الخميني، ولم يذكر لنا التاريخ أي عداوة بين الشعوب اليهودية والإيرانية عبر ما مضى من الزمن. وما يتظاهر به السيد أحمدي نجاد من عداوة تجاه الدولة العبرية وإنكار للمحرقة النازية المزعومة، فلا يعدو عن كونه مظاهرة سياسية يتحدى بها الولايات المتحدة التي تُحامي عن إسرائيل بحق ودون حق. والشيء نفسه ينطبق على بنيامين نتنياهو الذي هو الآخر يتصرف وكأن إيران من ألدِّ أعداء إسرائيل، وهو هراء لا تُؤيده الوقائع التاريخية. وكما ذكرنا في أكثر من مناسبة، فهدف إسرائيل من إثارة هذه الضجة المفتعلة حول التهديد الإيراني المزعوم لأمن الدولة اليهودية، هو في الواقع من باب ذر الرماد على العيون بقصد صرف أنظار العالم عن القضية الفلسطينية، وهذا ما هو فعلا حاصل اليوم.
ومن الواضح أن سياسة الحكومة الأمريكية ''العقلانية'' تجاه إيران، تحت إدارة الديمقراطيين بزعامة الرئيس باراك أوباما، تختلف اختلافا جذريا عن تلك السياسة الهوجاء التي كانت تنتهجها الحكومة السابقة برئاسة جورج بوش الابن. وهذا دليل على أن قضية احتمال تطوير إيران للسلاح النووي ليس مادة جوهرية في السياسة الخارجية، بل إنها تخضع للعوامل النفسية والعقائدية لرئيس الحكومة. فالرئيس أوباما يفضل المهادنة وعدم زج القوات الأمريكية في مأزق يصعب الخروج منه ويجلب من المآسي الإنسانية في محيط إيران والبلدان المجاورة ما هم في غنى عنه، كما هي الحال في العراق وأفغانستان.
أما الذي ربما يتأثر بالمخططات الإيرانية، خصوصاً إذا انتهى بها الأمر إلى تطوير قدراتها الذرية، فهم دون شك الأقربون من جيرانها مثل دول الخليج العربي وليست دولة إسرائيل التي دونها منْ يحميها. ولذلك فنحن لا نرى هناك أي حاجة لإيران لأن تتبنى برنامجاً نووياًّ ينتهي بامتلاكها سلاحاً ذرياًّ مهما كانت الظروف والمبررات. فالأولى لمستقبل ورفاهية شعوبها ألا تتعدى طموحاتها النووية النواحي السلمية، كاستخدام الطاقة الذرية فقط من أجل توليد الطاقة الكهربائية، وهو حقل مهم وواسع. فحتى وجود الشك في أن لديها نوايا خفية للوصول إلى امتلاك ولو قدر يسير من الأسلحة الذرية، سيجلب لها من العداء الإقليمي والعالمي والمقاطعات الاقتصادية ما يُربك سياستها ويُنهك اقتصادها ويُفقدها ثقة معظم دول العالم، مما سيُسهم في زيادة عزلتها واحتمال إيجاد فرص لإحياء الانقسامات الداخلية وتقويض أسس النظام الحالي في إيران نفسها. أما إذا أصرت على انتهاج سياسة التحدي وعدم إظهار حسن النية وفضلت ذلك على العيش بسلام، فهي وحدها التي ستتحمل وِزْرَ تصرفاتها غير العقلانية. ثم إنه من غير المقبول أن يدعي أحد، سواء داخل إيران أو خارجها، أن هناك استهدافا لأمن إيران، لا من جيرانها ولا من أي دولة أخرى. فما الذي إذن يدعو الحكومة الإيرانية لامتلاك سلاح نووي على حساب أمن شعبها وحماية اقتصادها؟ ومهما كان من الأمر، فإن صرف طاقاتها المالية والتكنولوجية من أجل بناء سلاح ذري لن يجلب لها إلا الدمار والمشاكسات السياسية. وليس من المستبعد أن يكون الهدف الرئيس من التلويح بقدرة إيران على الدخول إلى النادي الذري للقوى العظمى، ما هو إلا نتيجة نزوات سياسية يستخدمها منْ هم على رأس الحكم لإلهاء خصومهم وشغل الشعوب الإيرانية بما يُشغل بال الحكومة.
ولعلنا نختم هذا الحديث بالتساؤل التقليدي، وهو ماذا يضير الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي إن امتلكت إيران قدرات نووية، وهم، أي الأمريكان، لم يحتجُّوا ولم يستنكروا وجود أسلحة دمار نووية لدي دولتين متجاورتين، هما الهند وباكستان؟ ولكنها ازدواجية المعايير التي تتميز بها السياسة الأمريكية المتناقضة. وحتى لو فرضنا جدلاً أن الولايات المتحدة تتظاهر بضرورة حماية الدولة الصهيونية من الخطر الإيراني المزعوم، فإن أمريكا لن تخلو من ''قِلة من الجهابذة'' الذين يُدركون أن ما هو حاصل بين إسرائيل وإيران لا يعدو عن كونه أشبه بلعبة القط والفأر، وليس عداء حقيقيا.
وإذا أرادت الحكومة الإيرانية أن تحتفظ بعلاقات طيبة وودية مع جيرانها، وعلى وجه الخصوص الدول الخليجية، فمن الأفضل لها ألا تُشغل نفسها وتُنهك اقتصادها لهثاً وراء بناء قوة نووية لن تجلب لها إلا الشك والريبة نحو نواياها. وسواء استطاعت امتلاك سلاح نووي أم لم تفعل، فهي دولة من الحجم الصغير بالقياس مع دول أخرى أكبر قوة وأكثر إمكانيات عسكرية واقتصادية. وكونها تعيش بسلام مع جميع الدول، وهو مُتيسِّر لها، أجدى لها من أن تُثير مسائل أمنية ليس لها حظ من الواقع.