هل هي تهديدات حقيقية أم مناورات سياسية؟!
بعد الحرب العدوانية التي أقدم عليها الكيان الصهيوني على قطاع غزة، نشطت هيئات حقوق الإنسان, وطالبت بمعاقبة قادة الصهاينة الذين ارتكبوا أبشع الجرائم التي شهدتها الإنسانية بحق الإنسان والأرض, والشجر والبيئة, وقد لاح في الأفق وفي بعض الدول الغربية مثل بريطانيا, وإسبانيا, وبلجيكا ودول أخرى إمكانية اعتقال قادة الصهاينة لارتكابهم جرائم حرب, وجرائم إبادة بشرية, وأصبح قادة الكيان الصهيوني يتحاشون السفر إلى بعض الدول، إلا أن حكومة بريطانيا في عهد براون لم تنفذ مثل هذا القانون، بل وقامت بتهريب وزيرة خارجية الكيان تيسبي ليفني خارج بريطانيا، تحاشياً لاعتقالها وفق هذا القانون, وفي كل مرة تثار فيها هذه القوانين وتظهر على السطح يتحاشى قادة الصهاينة زيارة الدول التي يحتمل اعتقالهم فيها.
من اللافت للانتباه أن مثل هذا القانون يشهر في بعض الأحيان ويختفي فجأة دون أي أسباب واضحة, وفي ظني أن ظهوره محكوم بالمناخ السياسي العام وسير المحادثات السلمية بين الفلسطينيين والصهاينة, فالغرب يستخدمه إعلاميا ليس لإخافة قادة الصهاينة وإنما لإرضاء الفلسطينيين، الذين وصلوا دون قادتهم إلى حالة من الإحباط، نتيجة فشلهم في التوصل إلى أي حل رغم ما قدمه القادة من تنازلات, وتنسيق أمني, واعتقال لنشطاء المقاومة, وزج لهم في السجون. إن ما يؤكد هذا الاستنتاج هو أنه لم يعتقل أي مسؤول صهيوني رغم التهديد باستخدامه عدة مرات من دول عدة.
الكيان الصهيوني من جانبه يواجه إشهار هذا القانون بمزيد من الصلافة, والعجرفة, والتحدي لكل العالم, وبقوانينه, وقراراته التي لا تساوي في نظره الحبر الذي طبعت به، بينما قادة العرب يقدسون هذه القرارات أكثر من تقديسهم لدساتيرهم. قبل زيارة وزير الدفاع البريطاني وليم هيج للكيان الصهيوني أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) أعلن الصهاينة تعليقهم للتعاون, والتنسيق الاستراتيجي مع بريطانيا, وأثناء الزيارة أعلن الوزير هيج نية بلاده وعزم حكومته على تغيير قانون اعتقال مجرمي الحرب, وذلك بهدف إزالة حالة الخوف التي من الممكن أن تعتري قادة الصهاينة، إن كان هناك من حالة خوف محتملة، والغريب في الأمر سرعة استجابة البريطانيين لهذا التهديد وعدم قدرتهم على مواجهته, ولو لفظياً, أو حتى تنتهي الزيارة, فالوزير لم ينتظر حتى يغادر فلسطين المحتلة بل بادر, وعبر عن رغبة حكومته في تغيير القانون حتى لا يعكر صفو نتنياهو, وأعضاء حكومته. بريطانيا صاحبة الفضل, والمنة, ومن غرس البذرة النجسة في بلاد فلسطين ترتعد فرائصها من تصريحات قادة الكيان, وتعد بتغيير القانون, ولذا سارع الصهاينة, وصرحوا بأنهم سيستمرون في مناقشة التنسيق الاستراتيجي مع بريطانيا، وذلك بعد تصريحات الوزير البريطاني.
في مثل هذه الظروف يشعر المرء وكأنه في مسرح مخصص للأطفال، إذ تصدر التصريحات من هنا, وهناك, وتكون ردود الأفعال والزوابع الإعلامية من جميع الأطراف. المسؤولون الصهاينة يترددون على عواصم عربية ليل نهار, وسراً وعلانية، ويواجهون بالابتسامات, والاحترام, والتقدير, والكيان الصهيوني يستكمل مشروع بناء المستوطنات تحت مظلة التفاوض المباشر, أو غير المباشر.
حين صدر قانون اعتقال مجرمي الحرب في بريطانيا وطالب البعض باعتقال مجرمي الحرب الصهاينة وتفعيل هذا القانون، طالب بعض أعضاء الكنيست الصهيوني بمعاقبة بريطانيا على استحداث مثل هذا القانون وردعاً لها عن تفعيله, تأملت في هذا التهديد فألفيت أنه لم يأت من فراغ، بل جاء بناء على بنية نفسية قوية أساسها أيدولوجيا واضحة, ومحددة, بناء نفسي أساسه الاعتزاز, والفخر, ووضوح الرؤية, والهدف, إضافة إلى القوة المعرفية, والمادية, والعسكرية, والاستخباراتية التي تتدخل في جميع تفاصيل المجتمعات الغربية, والعربية, ومعرفة أسرار السياسيين وفضائحهم, وتهديدهم بسمعتهم ومصالحهم.
إن إشهار هذا القانون بين فينة وأخرى قد يرضينا نحن العرب مؤقتاً, ويخفف من مشاعرنا، لكنه لا يحل مشكلتنا مع العدو, ولذا لا يمكن التعويل على الغرب وقوانينه مهما بدت لنا مهمة، خاصة إذا كانت هذه القوانين موجهة إلى الكيان الصهيوني، الذي لديه فيتو قوي في هذه الدول.