هل لدينا شروط أفضل لتصدير المنتجات؟
كنت قد كتبت منذ مدة مقالا في هذه الصحيفة عن "اقتصاديات التصدير"، وأعود الآن إلى الموضوع ذاته؛ لما له من أهمية فيما يتعلق بمستقبل اقتصادنا الوطني. والسؤال الذي يطرح نفسه كموضوع لهذا المقال، هو هل كل ما نُصدِّر من بضائع ومنتجات، سواء كانت صناعية أو زراعية، تعود قيمتها على الاقتصاد المحلي بمكاسب حقيقية أم أن المردود المالي من عملية التصدير وهمي؟ وإذا كنا نبيع صادراتنا بنسبة مُعينة من الربح ظاهريا كعائد على رأس المال المُستثمَر، فهل تشمل تكلفة الإنتاج جميع قِيم المعفيات والتسهيلات المُتاحة للمواطن صاحب المنشأة أو المستثمر، والتي تتحمل تكلفتها خزانة الدولة؟ وسوف نستثني من الصادرات ما يتعلق بتصدير النفط الخام والمشتقات النفطية والغاز.
وكما هو معلوم لدى الجميع، فإن الغرض الرئيس من عملية تصدير البضائع والمنتجات المحلية لأي بلد، هو الحصول على مكاسب صافية حتى ولو لم تكن كبيرة ومجزية. فالمهم ألا يكون المردود الحقيقي النهائي سالبا. وهذه معادلة صعبة إذا تُرك الأمر لأصحاب المصالح الخاصة الذين لا يهمهم إلا مقدار ما يخصهم من الأرباح دون مراقبة ولا محاسبة. ونحن ندرك أن هناك مصالح مشتركة بين دول العالم وشعوبها تتطلب مبادلة البضائع والمنتجات الصناعية فيما بينها، ولكن المصالح الوطنية لأي جهة يجب أن تُقدَّم على مصالح الآخرين. ونكاد نجزم أن وضعنا الاجتماعي والاقتصادي يختلف عن كثير من الدول الأخرى فيما يتعلق بوجود الكثير من الإعفاءات المالية والإعانات التشجيعية والتخفيض الكبير لأسعار مصادر الطاقة والاستخدام المفرط للعمالة الأجنبية الرخيصة بدلا من العمالة الوطنية. كل هذه العوامل تُؤثر تأثيرا مباشرا على مدى قابلية وجدوى اختيار التصدير إلى الخارج وعلى المردود الذي يتوخاه المُصدِّر للبضاعة والمنتجات المحلية. وربما أن البعض منا قد سمع عن بعض المنتجات المستوردة من الخارج، التي نحصل عليها في حالات محدودة بأقل من سعر التكلفة، كما تدعي الجهة المُصدرة، ولا أستغراب في ذلك. فإذا كانت تلك البضاعة إنتاجا محليا في بلد المنشأ والعمالة التي تُصنِّعها أيد وطنية في ذلك البلد وجميع التكاليف مشمولة مع التكلفة الكلية، فيكفي لهم ربحا؛ كون الأيدي العاملة المستفيدة وطنية. أما عندنا، فالمواطن لا يتواجد في معظم المرافق الزراعية والصناعية التي تُصدِّر منتجاتها إلى خارج المملكة. والسبب الرئيس هو عدم وجود التأهيل الفعال للشباب وعدم إعطائهم الفرص المناسبة وضعف الرواتب والمكافآت بالنسبة لمستوى المعيشة في بلادنا، وكل ذلك ناتج عن غياب شبه كامل للنظم والقوانين الحكومية التي من الممكن أن تحمي المواطن وتضمن له حقوقه وتُنظم علاقة الموظف السعودي مع صاحب العمل. والتنظيم المطلوب يعمل أيضا على حفظ حق الطرف الآخر، وهو المُستخدِم؛ لضمان عدم ترك الموظف العمل والانتقال إلى مؤسسة أخرى دون الاتفاق بين الطرفين، وأهم من ذلك، موافقة صاحب العمل الذي ربما يكون قد أنفق جهدا ومالا على تدريب الموظف.
ولعل الصعوبة في دراسة وتنظيم حالات التصدير هي التي تُهيمن على الوضع الحالي وتُطلق العنان لكل منْ يريد أن يُصدِّر بضاعة دون أن يكون هناك مُساءلة عن المردود بالنسبة للاقتصاد الوطني. وربما أن السؤال المهم هو، ما الجهات المسؤولة التي من مسؤوليتها التأكد من أننا لا نُصدر أي منتجات تكون تكلفتها وقيمتها الحقيقية أكبر من سعر بيعها، أي أننا نبيع بخسارة، حتى ولو ادعى المُصدِّر للبضاعة أنه يحصل على مكاسب مقابل مبالغ استثماراته. ولا شك في أن هناك أكثر من وزارة لها علاقة بتصنيع وإنتاج كثير من المواد المتوافرة للتصدير، وهي وزارة الصناعة ووزارة التجارة ووزارة المالية، وربما غيرهم من المؤسسات الحكومية الأخرى. ونود لو أن المسؤوليات من جميع الجهات تكون مُحددة وتتفاعل مع بعضها، فنحن نتحدث هنا عن قضية جوهرية تمُسُّ مباشرة اقتصاد بلادنا. ولكن لا أحد يود أن يفتح باب النقاش فيها؛ ربما لأنها مسألة شائكة وتحتاج إلى مجهود كبير ومتابعة مُضنية من قِبل المسؤولين. ولم يكن لدينا من الخيارات إلا ترك الأمور تسير على ما هي عليه منذ بدأ التصدير، وهو بطبيعة الحال وضع غير مقبول. فجميع الدول المتحضرة تبذل جهودا جبارة من أجل الحفاظ على ثرواتها ومكتسباتها وصيانة اقتصادها من الخلل والضياع. ونحن يجب ألا نكون أقل حماسا، وعلينا أن نبدأ باتخاذ جميع الإجراءات المطلوبة للإشراف المباشر على عمليات التصدير مهما كلف ذلك من جهد بشري، إلى جانب ضرورة إشراك المواطن الشاب ليحل محل العامل والموظف الأجنبي، حتى لو رفع ذلك من معدل التكلفة في أول الأمر.
ولنأخذ بعض الأمثلة من واقع وضعنا ونتساءل عما إذا كان التصدير من بعض المواقع هو فعلا من صالحنا. فعلى الرغم من الطلب المتزايد على مواد أسمنت البناء داخل المملكة، إلا أننا نقوم أحيانا بتصدير كميات لا بأس بها من الفائض المؤقت إلى بعض البلدان المجاورة ونبيعها بأسعار منافسة قد لا تكون مرتفعة. ومن المعروف أن مصانع الأسمنت في المملكة تستخدم مصادر الطاقة من الوقود النفطي بأسعار زهيدة لا تُمثل إلا نسبة ضئيلة من سعر السوق العالمي. وتستخدم طاقة كهربائية رخيصة ومواد أخرى كثيرة مُعانة من الدولة، بما في ذلك كميات المياه التي لا يُحسب لها ثمن. ومن المؤكد أن نسبة كبيرة من عمال مصانع الأسمنت هم من العمالة الأجنبية الرخيصة، وذلك بدلا من العمالة المحلية التي يتطلب وجودها تكلفة أكثر، بعد إضافة التدريب والتأهيل للعامل المواطن. يلي ذلك صناعة الألبان والمواد الزراعية التي عادة ما يُصدَّر منها كميات إلى دول الجوار. فمصادر مياه الري والاستخدامات الصناعية كلها من المياه الجوفية التي ليس لها تعويض، ومع ذلك فهم يستخدمونه وبكميات كبيرة دون مُقابل. كما يتمتعون هم أيضا بتسهيلات لا حدود لها، كالطاقة الرخيصة جدا سواء مواد الوقود التي تُباع عليهم بشبه البلاش أو الطاقة الكهربائية المخفَّضة. ومؤسسات إنتاج الألبان والمواد الزراعية تستخدِم هي أيضا أعدادا كبيرة من العمالة الأجنبية، وأبناء الوطن مُبعدون عن هذه المرافق بسبب انخفاض الأجور التي تُقدمها لهم تلك الشركات "الوطنية".
وما فائدة تصدير المنتجات المحلية إلى البلدان الأخرى إذا لم يكن الهدف الرئيس من ذلك هو جني نسبة معينة من الأرباح التي تُضيف إلى الاقتصاد الوطني ولا تستقطع منه، آخذين في الاعتبار قيمة كل ما يدخل في عملية التصنيع والإنتاج؟